مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

في التكييف الإدراكي الهوس وإقصاء الإبداع

مدخل إدراكي:
يمثل النظر الباحث في الظواهر السلوكية الإنسانية، إضافة ذات أهمية متضاعفة الجدوى المعرفية في واقع الحياة، لاسيما الظاهرة التي يتسع محيط تأثيرها، وتتعدد فروعها، وروافدها، في مجالات تأثيرية متنوعة، فتصبح حالة ذات امتدادات ثقافية، واجتماعية، ونواتج اقتصادية وتنموية، وتطورية، في مختلف المجتمعات.

ويمثل (الهوس)، أحد أبرز النماذج السلوكية التي تطورت، كيفياً وكمياً، عبر مراحل التاريخ الاجتماعي والحضاري، حتى أصبح ظاهرة مركّبة، في تعدد أنماطها، وتنوّع آثارها، ويمكن مقايسة ذلك بتداخل توصيفاته المفهومية المتداولة، نفسها، فهو (الحالة الزائدة عن الحد المنطقي للتعلق بالشيء، أو محبته، أو الإقبال عليه، وهو أيضاً، ارتفاع مرضي في المزاج، مبالغ فيه، مع مشاركة من البهجة والسعادة، وفرط الثقة والتقدير، للوظائف النفسية والحركية وتسارعها). وهو كما وثقته الممارسة اللغوية، فرط الجنون (القاموس المحيط ص1716)، وهذا توصيف يشبه مبالغة الهوس، إذ لا يكتفي بكونه جنوناً، أي اختفاء عن واقع الناس المعقول، وإنّما يزيد بدرجة الفرط، ويعد ذلك بمثابة حكم اجتماعي، على وضع الهوس، وغير ذلك من الإضافات التعريفية، التي تتنوع بتنوع حالات الهوس وسياقاته، ما يجعله نموذجاً تدليلياً لحالة (عدم التوازن)، وهنا يكمن عمق الأزمة السلوكية، المتعلقة بالهوس، حيث التوازن قياس شامل للأحوال التعقلية، النفسية، الوجدانية، وباعتبار أنّ عدم التوازن أو الإخلال به، هو حالة الخروج عن التكيُّف الفعّال، ونعني به التوسط المُدرِك، لكيفية المواءمة بين التعبير عن انفعالات الذات، والقدرة على التمتع بما تُحِب، داخل سياق الوعي العقلي والشعوري، ومعادلة كل ذلك، بالتواصل مع البناء الاجتماعي، في إطار تفاعلي، دون تعدٍ عليه. وعلى سبيل مقايسة أخرى، يمكننا مقاربة ذلك مع مفهوم توازني سلوكي آخر، متعلق بالقيمة/ الفضيلة، حيث توزن بكونها وسطاً بين امتدادين سلوكيين، أو اعتدالاً بين تطرُّفيين، كأنْ يُقال: إنّ الشجاعة وسط بين الجُبن والتهور، فالشجاعة اكتسبت فضيلتها من الاتزان، بين التصور الذهني والاستجابة الانفعالية، فلا يجبُن المرء في مقام الإقدام، ولا يندفع في موضع التهور/ التهلكة، وإنّما يُقدِم حين يستدعي الموقف الإنساني/ الأخلاقي قيم المروءة، الشهامة، النجدة، فيما عليه ألا يقدم حين يكون الاندفاع، محض مغامرة، لا قيمة عليا من ورائها، وكذلك مثل فضيلة الكرم، كسلوك إنفاقي، فهو وسط بين التقتير والتبذير، فهو إنفاق اعتدالي، يوازن بين العطاء والمسؤولية، فيكون قِسْطَاً بين أطراف الحقوق كلها، بما فيها نصيب المنفق نفسه، دون أن يكون ذلك خصماً على خاصية الإيثار، حين يستدعي الموقف القيمي ذلك، فقيمة الإيثار مدارها الإحسان، لا الكرم، ومغالبة شح النفس/ الهوس بها، حين يؤثر المرء، مع احتياج خاص، من يدرك بوعي أنه أحوج، بينما الكرم إنفاق من سعة، هذه الأمثلة لبيان أنّ المقاربات القيمية هي معادل تأسيسي مهم للوقاية من علة الهوس، والوعي بأمدائه التأثيرية كذلك.
الهوس والفن.. طردية الضرر وإقصاء الإبداع
ارتبط الهوس بالفن أو مبدعيه، ارتباطاً اتباعياً لا تفاعلياً، بمعنى أن الحالة الصحية للإبداع الفني، أن يظل يزدهر ويتجدد بوعي المتلقي التعبيري، الذي يتجلى في حرصه على الارتقاء الذوقي، وهو ما يجعل الفنان يحافظ على ذاته الإبداعية من التآكل، إلا أنّ الهوس يحول دون اكتمال دورة الحضور الحيوي للفن الدافعة للمسير التطوري في واقع الإنسان الاجتماعي، فتجارب وسير المهووسين، بينت أنّ الهوس حالة تعلُّقيّة تخرج بالمهووس من حالة الحب، كعلاقة إدراك وجداني تبادلية، في الحالة الطبيعية، تُقوِّي وتعزز الاعتداد الوجودي بالذات، إلى حالة مملوكية للمهووس به، إذْ يبدو واضحاً التعلُّق غير الإبداعي بالفنانين والفنانات، حيث يتعلق المهووس بهم ذاتاً، لا موضوعاً، فتنشأ حالة إذعان، تفقد المهووس تذوق الإبداع، وتجنح به إلى تشخيصه، والأسوأ في هذه العلاقة التعلُّقية الخيالية، أنّها طرديّة الضرر، بمعنى أنّ الضرر لا يلحق بالمهووس فحسب، وإنّما يلحق بالإبداع أو المبدع ذاته، حيث قد تتدنى مقاييس وشروط الارتقاء الفني، وتسود معايير تسليعية، على حساب الجودة الإبداعية، فتتضخم ذات الفنان الشخصية على حساب ذاته الإبداعية، وتنطفئ جذوة الإلهام الخلّاق في تذوقاته، وتصوراته، ويتحول إلى حالة متوهمة، غير أنّ الآثار الهوسيّة هنا، لا تقف عند طرفي التهوّس، بل تمتد إلى تصنيع أنماط استهلاكية، تطال الأبعاد الثقافية، الاجتماعية، الاقتصادية، وتحيل الأوضاع الكليّة إلى حالة تخلُّف في النمو التطوري، وقد لا تسلم من ذلك حقول الإبداع العلمي والأدبي والفكري والفلسفي، فحين يسود الهوس، يسود الاستهلاك، ويقل الإنتاج، وتُسْتَضْعَف القلة المبدعة، في العلوم والآداب، بمعنى ألا يتوفر لها سوق للنشر، أو تسويق للمبتكرات والمخترعات.
تكنولوجيا الهوس
الهوس معادل استهلاكي، مساهم بنسبة كبيرة في استنزاف الوقت الإنتاجي للطاقات، وخطورته في الواقع المعاصر أنّه غدا مُصَابَاً جَمْعياً، لا مجموعياً، حيث إنّ التشبيك الذي وفرته تكنولوجيا الاتصال الحديثة، وعلى وجه الخصوص، مواقع التواصل الاجتماعي، التي أنشأت مجتمعاً افتراضياً، على المستوى الفيزيائي، لكنه واقع على مستوى التأثيرية الملموسة، وقد أنتج مقولاته وأنماطه التعبيرية، وفرض سطوة أنماطه الإخبارية/ الإشاعية، وتحرر من قيود/ قيم الموضوعية، كما هو ملاحظ، وما بقي لثقافة الاستخدام الراشد، سوى حيوزات محدودة، إذا قورنت بالتداعي الاستهلاكي الكثيف من مختلف الفئات الاجتماعية/ الثقافية/ العمرية، أما علاقة ذلك بظاهرة الهوس والمهووسين، فكادت أن تصبح عضوية، وكاد جميع مستخدمي وسائل التواصل أن يكونوا من المهووسين، بدرجات تعلقية متفاوتة، بهوس المطالعة العنكبوتية، بما يجعل من الممكن أن نصف أغلب المستخدمين بالإصابة، بما نسميه (الهوس الخفي)، حيث تتضاعف نسبة التعرض للمحتوى الإعلامي لوسائل التواصل الاجتماعي بشكل مؤثر، إذ يكاد أن يشمل ويزيد كل أنماط المهووس بهم، وكادت مؤسسات التنشئة التربوية الأسرية والمدرسية والإعلامية والثقافية والاجتماعية أنْ تفقد قبولها لدى قطاعات المجتمع، وكادت أن تتحول إلا قليلاً إلى مجرد مؤسسات إجرائية بفعل التعلق الهوسي الاستهلاكي للمستخدمين، فحين تفقد الأسرة والمدرسة العلاقات الاجتماعية غير الآلية وقتها، وعلاقاتها الأفقية والرأسية، بأفراد المجتمع، يصبح الهوس حالة وبائية تستوجب التطعيم المعرفي.

ذو صلة