مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

الشعر الشعبي في تراثنا الأدبي

اتفق القدماء على أن الشعر ديوان العرب، وأنه مصدر معرفتهم ومنهل آدابهم، وهو الوسيلة الإعلامية الأولى في نقل أخبارهم وتسجيل انتصاراتهم. بل عرفنا منه عاداتهم وتقاليدهم ووسائل تربية أبنائهم. وأخذنا منه الحكمة وأنساب العرب وعلومهم وأيامهم.
ويمثل الشعر الشعبي رافداً مهماً من روافد الشعر. ولوناً من ألوان الأدب الشعبي الذي يضم كل ألوان الكتابة المعروفة إلى جانب الشعر.
وقد يتصور البعض -حين نتناول الشعر الشعبي- إنما نقصد هذه الأشعار المكتوبة بالعامية التي يرددها الزجالون سواء أكانت غناء أم أداء أم ترديداً. أو أننا نقصد هذه الترنيمات العامية التي تحكيها الجدات للحفدة. أو نقصد مجموعة الأمثال الشعبية التي يرددها العامة هنا وهناك.
ومن ثم فإن الحديث عن الأدب الشعبي بهذه النظرة الضيقة، يجعله محلياً إلى حد كبير، وعلينا أن نكون منصفين ونكمل الصورة بالحديث عن تراثنا الشعري الذي سجل الموضوعات الشعبية السائدة في المجتمع. لهذا سنركز هنا على نماذج شعر الفصحى التي تؤكد أن أجدادنا لم يتركوا موضوعاً شعبياً إلا عبروا عنه تعبيراً فنياً من خلال الشعر. ونظراً لمقتضيات النشر سوف نطوف بإيجاز مع بعض الموضوعات الشعبية. ونذكر بعضاً من إسهام الشعراء القدامى في هذه الموضوعات. ونحن نهدف من ذلك إلى وضع إضافة مهمة إلى ما عبر به شعراء العامية عن الموضوعات نفسها:
-1 ترقيص الأطفال: تتميز مرحلة الطفولة بالبراءة الخالصة، ولهذا عمد الإنسان منذ وجد إلى تربية أطفاله ثقافياً وفنياً، خصوصاً في مرحلة الطفولة المبكرة، وتغنوا لهم بأشعار أغلبها مكتوبة على بحر الرجز أو مجزوءات البحور. وتتضمن الفخر والدعاء للطفل. وأطلق على هذه النصوص الشعرية (أغاني المهد أو الترقيص). من ذلك مثلاً: تلك الترقيصة التي كانت تتغنى بها أخت النبي (شيماء) له في بادية بني سعد وتقول:
يا ربنا أبق لنا محمدا
حتى أراه يافعاً وأمردا
ثم أراه سيداً.. مسودا
واكبت أعاديه معاً والحسدا
وأعطه عزاً يدوم أبدا
وهذا عربي يرقص ابنته ويقول:
كريمة.. يحبها أبوها
مليحة العينين عذب فوها
لا تحسن السب وإن سبوها
-2 وصايا الآباء للأبناء: لا يوجد أدب إنساني يخلو من هذه الرسائل والوصايا من الكبار للصغار، سواء أكان على لسان الحكماء أم الآباء والأمهات. من ذلك هذه الوصية للشاعر عبدة بن الطبيب (المتوفى 39هـ) والتي وجهها لأولاده:
أبني إني قد كبرت ورابني
بصري وفي لمنظر مستمتع
أوصيكم بتقى الإله فإنه
يعطي الرغائب من يشاء ويمنع
وببر والدكم وطاعة أمره
إن الأبر من البنين الأطوع
إن الكبير إذا عصاه أهله
ضاقت يداه بأمره ما يصنع
ودعوا الضغائن لا تكن من شأنكم
إن الضغائن للقرابة توضع
وإذا مضيت إلي سبيلي فابعثوا
رجلاً له قلب حديد أصمع
إن الحوادث تخترمن وإنما
عمر الفتى في أهله مستودع
-3 شعر الألعاب: اتفق كثير من الفلاسفة وعلماء النفس على أن اللعب للإنسان يحدث نتيجة الطاقة الزائدة فيه. وقد تناول الشعراء ألعاب العرب في أشعارهم وتغنوا بها أثناء ممارستهم للعبة، من ذلك ما تغنى به امرؤ القيس عن لعبة (الزحلوقة) حيث يقول:
لمن زحلوقة زل
بها الفتيان تنهل
ينادي الآخر الأل
ألا حلوا.. ألا حلوا
وروي عن الفارس عنترة أنه كان يلعب بسيفه ويفخر بفروسيته وينشد:
إني أنا عنترة الهجين
فج الأتان قد علا الأنين
يحصد فيه الكف والوتين
من وقع سيفي سقط الجنين
عندكم من ذلك اليقين
عبلة قومي ترك العيون
فيشتفي مما به الحزين
دارت على القوم رحي المنون
-4 شعر الحروب والانتصارات: كانت شجاعة العربي وفروسيته وإقباله على قتال أعدائه من الموضوعات التي اهتم بها الشعر الشعبي. فقد أثر عن الشعراء إنشادهم الأراجيز القصيرة التي تحض على القتال، وغيرها التي تفخر وتتغنى بالنصر (تماماً مثل الأغاني الوطنية المعاصرة)، من ذلك مثلاً ما تغنت به نسوة المشركين حينما خرجوا لقتال المسلمين في غزوة أحد وكانت بينهن هند بنت عتبة تضرب الدف وتقودهن منشدة:
نحن بنات طارق
نمشي على النمارق
إن تقبلوا نعانق
أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
وهذا القعقاع بن عمرو التميمي يرتجز فرحاً حينما هاجم مع المسلمين سرادق كسرى وقتلوه:
نحن قتلنا معشراً وزائدا
أربعة وخمسة وواحدا
نحسب تحت اللبد الأساودا
حتى إذا ماتوا دعوت جاهدا
الله ربي واحترزت عامدا
-5  فن الحُداء: ويعني غناء المسافر للإبل ليساعدها على السير والإسراع وقطع المسافات البعيدة، وعدم الإحساس بالملل من طول المسافة.
وكان للرسول صلى الله عليه وسلم في أسفاره حداة، منهم: البراء بن مالك، وعامر بن الأكوع، وعبدالله بن رواحة، وأنجشة. وهذا ابن رواحة يأخذ بزمام ناقة النبي وهو يدخل الحرم المكي فاتحاً مكة.. وينشد:
خلوا بني الكفار عن سبيله
خلوا.. فكل الخير في رسوله
قد أنزل الرحمان في تنزيله
بأن خير القتل في سبيله
يا رب إني مؤمن بقيله
أعرف حق الله في قبوله
اليوم نضربكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
-6 الأجوبة المسكتة: ويلجأ إليها من يشعر بالحرج أو الإهانة أو السخرية مدافعاً عن نفسه. من ذلك أن عمرو بن العاص دخل يوماً على معاوية، فلما رآه معاوية أراد أن يسخر منه ففاجأه بقوله:
يموت الصالحون وأنت حي
تخطئك المنون فلن تموتا
فرد عليه عمرو بن العاص على الفور:
فلست بميت ما دمت حيا
ولست بميت حتى تموتا
-7 الألغاز: تنبثق الألغاز من الخصائص المميزة لبيئة الجماعة والبيئة اللغوية، فكل ثقافة لها ألغازها المستمدة من مفرداتها، من ذلك مثلاً: في القلم:
بصير بما يوحى إليه وما له
لسان ولا قلب ولا هو سامع
كأن ضمير القلب باح بسره
إليه إذا ما حركته الأصابع
وفي الكتاب:
وذي أوجه لكنه غير بائح
يسر وذو وجهين للسر يظهر
تناجيك بالأسرار أسرار وجهه
فتسمعها بالعين ما دمت تبصر
وفي السيف:
ذو مدمع من غير ما مستعبر
وتبسم من ثغره متوالي
ويريك من لألائه متوقدا
حنق المنون به على الآجالا
-8 الحرف التقليدية: هناك شعراء عرفوا بشعراء الحرف، تناولوا حرفهم في أشعارهم، منهم مثلاً هذا الشاعر السكندري ظافر الحداد (المتوفى 528هـ) وقد اتخذ لحرفته دكاناً للحدادة في أحد دروب المدينة، وكان قد صنع كرسياً من الحديد أعجبه وزها به فقال:
انظر بعينك في بديع صنائعي
وعجيب تركيبي وحكمة صانعي
فكأنني كفا محب شبكت
يوم الفراق أصابعاً بأصابع
وهذا الشاعر حسين الجزار (توفي 679هـ) يرسل إلى القاضي شرف الدين يقول:
لا تلمني يا سيدي شرف الد
ين على أن رأيتني قصابا
كيف لا أعشق الجزارة ما عشـ
ـت حياتي وأرفض الآدابا
وبها صارت الكلاب ترجيـ
ـني وبالشعر كنت أرجو الكلابا
وهناك موضوعات أخرى لم يتخلف الشعر عن التعبير عنها وعاشت على مر الزمان شاهدة على قدرة الشعراء وتعبيرهم عن المضامين الشعبية منها مثلاً: المناسبات السعيدة، العديد والرثاء والنواح، الحكم والأمثال، الظرف والفكاهة، السفر والغياب، الشعر المزخرف، شعر الحيوان، أدعية المحتاجين، الإنشاد والغناء، شكوى الزمان، وغيرها مما يضيق المقام عن ذكر ما قيل فيها من أشعار. وأخيراً.. فإن هذه الإطلالة الموجزة على الشعر الشعبي في تراثنا الأدبي إنما تحتاج إلى مزيد من الصفحات حتى نستطيع أن نحيط بهذا الموضوع، وندرك أن أجدادنا الشعراء قد أدركوا قيمة المضامين الشعبية وعبروا عنها بأشعارهم بكل صدق.

ذو صلة