مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

في انتظار غودو لصمويل بيكيت.. عبثية الانتظار من منظور التراجيديا الكوميدية

اشتهرت أعمال الكاتب المسرحي والناقد الأدبي الإيرلندي (صمويل بيكيت)، وأضاءت مسرح الإنسان، بما فيه من تغذية للبيئة الشعورية، لإيصال رسالة توحد الجميع إزاء مصيرهم، وتفتح بصيرتهم لمواجهة عالم يفقدونه، وفردوس يتوقون إليه. وقد عرف (بيكيت) بحبه للكوميديا الجسدية، فتأثر بشخصيات (شارلي شابلن) و(باستر كيتون)، مما ساهم في تعزيز أدبه، وبذلك كان واحداً من رواد ومؤسسي المسرح العبثي، وأحد أكثر الكتاب تأثيراً في القرن العشرين. وقد تميزت مسرحياته بطابعها البسيط، وفكرتها العميقة والحقيقية، فمسرحيته الشهيرة (في انتظار غودو) جمعت بين الهزلية والعبثية، ونزعت القناع عن الآمال الكاذبة والسراب الخادع، في عالم غير عادل، وما يعانيه الناس جراء ذلك، ويتمثل ذلك في قوله: (الأمل المؤجل يجلب مرض القلب).
عاصر بيكيت الروائي الإيرلندي (جيمس جويس)، واستفاد من تجاربه اللغوية في كتاباته، كذلك عاصر(كافكا) و(سارتر) و(ألبير كامو).. وآخرين، وهم الذين وجدوا في مسرحيته مادة قيمة للمسرح، لأنها كانت بالأصل مقاطع كتابية تتخللها مادة حوارية، حولها بيكيت إلى مسرحية من خمس شخصيات، وقد ترجم النسخة الإنجليزية بنفسه بعد أن كتبها باللغة الفرنسية، ووضع العنوان لها (تراجيديا مضحكة من فصلين)، جعل فيها الفكرة الرئيسة حول الانتظار من باب الاستسلام للزمن، في أيام يتغللها اللامعنى واللاتاريخ، عبر فصلين لا يتغير فيهما المشهد العام، وهو طريق مقفر ليس فيه سوى شجرة جرداء يجلس إلى جوارها شخصان مهرجان يثرثران، وهما (فلاديمير وإستراجون)، إذ يتحدثان في مواضيع مختلفة، ولا يعرفان سبب وجودهما على الأرض، ولذلك يأملان في المعنى والتنوير، ويبقيان بانتظار (غودو) الذي لا يأتي. وهكذا منذ اللحظة الأولى لارتفاع الستار تتجسد فكرة رمزية صورية، تعكس بأس الحياة وعذاب الإنسان في منفاه على الأرض. وقد أثارت شخصية (غودو) الذي ينتظره الجميع مع الحبكة القصصية، الكثير من التحليل والجدل حول المعنى المراد منها والمبطن لأحداثها، وهي الشخصية الأبرز التي يدور حولها الحوار وينتظرها الجميع، ولكنها لا تظهر على الساحة، وإنما تعيش في عالم الخيال، وتدفع العمل باتجاه خلط الحقيقة بالمجاز والواقع بالخيال. وشخصيات المسرحيات هي:
- (إستراجون) الذي يثرثر مع صديقه (فلاديمير)، ويقع ضحية عدوان في الليل، فيتعرض للضرب الشديد من قبل مجهولين، مما يتسبب بألم قدمه، وتنحصر اهتماماته بطعامه ونومه وآلامه.
- بوزو وهو رجل متسلط ومهيمن، يعلن أن الأرض بما عليها ملكه وحده، ويسوق أمامه خادمه (لاكي) الذي يحمل متاعه بواسطة حبل مربوط في عنقه، ويبقى صامتاً طوال فترة وجوده على المسرح، إلا عندما وضعت القبعة فوق رأسه، وطلب إليه أن يفكر، ليظهر للجميع أنه رجل التخطيط والفكر، الذي يسعى لتفسير كل شيء بعقلانية، ويكون تفكير (لاكي) وكلامه مونولوجاً طويلاً يبدأ بعبارات متماسكة وقوية، بعد ذلك يذوب في الإسهاب، إلى أن يسحب فلاديمير القبعة عن رأسه ويوقفه عن الكلام. وقد اختلف النقاد في شخصية (بوزو وياكي)، فقسمٌ قال إنهما كالسيد والعبد، وآخرون وجدوا شخصية ياكي راضية وقانعة بمعاملة بوزو لها، فالشخص الأول المتسلط كان في بداية العرض يظهر بأنه قوي، إلا إنه يحمل بوادر انهياره عند اعتماده على تفكير لاكي وعقلانيته، ومن المشاهد التي تشير إلى ذلك في المسرحية، نزع القبعة من فوق رأس (ياكي) في عراك يشتبك فيه الجميع، ومن خلال هذا العراك يفقد الشخص المتسلط ساعته، وبهذا ينهار العقل ويفقد الزمن مدلوله.
- (فلاديمير) وهو رجل ذو معرفة واسعة، عقله مشغول بمناقشة الآراء والمقترحات، وهو مرتبط بـ(إستراجون) ارتباطاً جدلياً، ودائماً ما يتناقشان ويختلفان، ويحاولان الانفصال عن بعضهما لكنهما لا يستطيعان، وهما بانتظار (غودو) الذي باعتقادهما سيخلصهما من الشقاء، وقد وعدهما جازماً بأنه سيأتي عبر مرسال أرسله، ووصوله متوقع في أية لحظة.
- (غلام) وهو الذي يوصل رسائل غودو، وفي معظمها عبارةٌ تفيد بأنه لن يأتي اليوم، ولكنه سيأتي غداً، وجاد بالمجيء في موعده، وتسبب هذه الرسالة المتكررة العديد من المشاكل للغلام، إذ يلاقي نفس الأسئلة ونفس ردود الأفعال عن كل مرة، فيقرر الانتحار لكنه يعجز عن ذلك.
وبقيت هذه الشخصيات المهمشة والمنعزلة تنتظر الشخص الذي يدعى غودو، ليغير حياتها نحو الأفضل، ولكنه لا يأتي أبداً. وقد عبرت هذه المسرحية عن حال الإنسان وسوداوية حياته ما بعد الحرب العالمية الثانية، والضياع الذي عانى منه العالم، فحاورت الذات الإنسانية ولامست آلامها، لأن الانتظار بحد ذاته عبثٌ حقيقي لا تشوبه شائبة، خاصوصاً عندما يكون الشيء هو الانتظار الذي لا وجود له أصلاً، أو لا معنى له. وقد لاقت هذه المسرحية عندما عرضت على خشبة المسرح في باريس، نجاحاً ساحقاً، ومنها انطلقت شهرة (بيكيت)، ثم كتب بعدها مسرحية (نهاية اللعبة) التي تم عرضها في لندن.
في توظيف الأغنية
يبدأ الفصل الثاني بأغنية تسرد قصة كلب سرق قطعة من الخبز وهرب، فلحق به الطباخ، وحين أمسكه ضربه حتى الموت، وبذلك تدور معاني هذه الأغنية حول الموت والضعف والحرمان، نفس الأشياء القديمة والحياة المملة، وهي تتعاقب وتتوالى، وتمضي المسرحية إلى النهاية في قوقعة الانتظار.
ثم يتطور شكل القصيدة الحديثة في هذه المسرحية، على شكل أغنية يتخللها دمدمة بشرية عالية، وهذيان آدمي رهيب، وهو الذي يصدر عن شخصية لاكي، يتبعه أنين يجسد صورة البشرية المعذبة، فما قاله لاكي هو قصيدة غنائية منفردة، فيها الكثير من ميزات الشعر وملامحه، تحمل في جوانبها التوتر والحماس العنيف نحو قول الحقيقة بكل جرأة وشفافية، ليكون هذا الغناء عاملاً أساسياً للتواصل بين الخشبة وأحاسيس المتفرج.
كتبت المسرحية في جو يشوبه الخوف وعدم الثقة والأمان، في ظل خيبة الأمل التي عاشتها أوروبا، تلك السنوات الرهيبة وحصار برلين وكوريا، والخطر الرهيب الذي هدد كل شيء، والإبادة الشاملة والقنبلة الذرية؛ لكن على الرغم من ألوان الشقاء هذه، فقد تولدت خلال تلك السنوات براعم الازدهار الفكري والوجودي، فالإنسان في محنته يلجأ إلى الفلسفة التي تجعل من معاناة الإنسان محور كل قضية، والناس آنذاك كانوا يتثقفون من مخطوطات (جان سارتر) و(سيمون دي بوفوار).
وبذلك كانت مسرحية (في انتظار غودو) رمزاً للمسرح العبثي الذي تحاك أحداثه وسط نزعة سوداوية وسخرية لا متناهية، تغلف الرمزية به كل شيء. ولكن شهرة مسرحية بيكيت، تميزها فكرة الانتظار اللامجدي، والتي تتكرر عبر الأزمان والأماكن، ومسألة الغربة وما ينتج عنها من صراع داخلي وتبعات يعانيها المرء في الداخل والخارج، وفي نهاية الأمر فإن (غودو) الذي أرسل كثيراً من الوعود لم يأتِ، وهو المشكلة الأساسية التي بقيت دون حل، وبقي السؤال من هو غودو؟ هل هو المخلص أم القاتل، السعادة أم الحزن، الموت أو الفراغ؟ أو رمزية للزمن الذي يحطم البشرية ويسرقها حتى الموت؟ العبث أو المنقذ؟ أو من يجعل الحلم حقيقة؟ أهو الطفل الذي جاء لهم بعدة أخبار متناقضة، أو ربما (بوزو) القوي المستعبد للاكي والسعيد باستعباده؟ وبذلك يبقى كالطيف القادم الذي يمضي أبطال مسرحية بيكيت حياتهم في انتظاره، وسط التعاسة في طبيعة جرداء.
والجدير بالذكر أن عمق الفكرة في هذه المسرحية أخذ بعداً استثنائياً بعيداً عن النمطية، فقد حملت داخلها الكثير من الانفعال والترقب، لتكون مسرحية اللامنطق في عالم يرتدي قناع المنطق والاستقرار، وفي داخله فوضى مرعبة، نتيجة الخوف الدائم وفقدان الأمان، والهامشية عن سابق وعي ذاتي، إذ خمر بيكيت الفكرة ثم عجنها وخبزها حتى قدم لنا وجبةً دسمة إبداعية، وهي الرسالة التي أراد رواد المسرح العبثي تبليغها، ضمن مراحل فكرية وفتية متمثلة في عبثية الوجود، والمتربصة في هذا العالم، بما تفرضه من هيمنة لا راد لها، وقد صورت هذه المسرحية محنة الإنسان في أبعادها المختلفة، مع رمزية عالية ومكثفة، تطورت فيها الحبكة المسرحية مبتعدةً عن تقاليد الحوار، فالصمت المرعب وسط الطبيعة الجرداء كان أبلغ من أي حوار أو كلام، كذلك الانتظار الذي كان أكثر رعباً، فقد ضحى صمويل بيكيت بالعنصر الدرامي، واستعاض عنه بالصياغة المسرحية البارعة، مستخدما (البانتوميم) في المشهد العام، يليه المواقف الكوميدية البارعة.
وقد كان للمسرح العربي أيضاً حظه من المسرح العبثي، إذ تجلت به كل الشفافية والفرادة، مثلما نجده عند توفيق الحكيم في مسرحية (يا طالع الشجرة)، التي حاول من خلالها تأصيل العبث، مستنداً بذلك إلى المواويل الشعبية، في قراءة واعية وعميقة لواقعنا المعاصر. والحقيقة أن المسرح العبثي بجميع عناصره، هو مرآةٌ تعكس بصدق التحولات المتسارعة التي ضيقت وأطرت حياة الإنسان، فتجعله ينظر بعين الحقيقة إلى الواقع المحيط به، واستعادة معرفته بذاته وآلامه.

ذو صلة