مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

البدانة.. مصدر للمرح فـي الفضاء التشكيلي

النظرة الجارحة، المسيئة والمتنمرة، إلى الشخص البدين، هي المرض الحقيقي الذي يجب التخلص منه. هذا ما لا يعرفه الكثيرون، حتى من صناع الأعمال الفنية، الذين دأبوا على اتخاذ البدانة مجالا للسخرية، منذ بدايات الكوميديا اليونانية، متجاهلين حق البدناء في ممارسة حياتهم بالطريقة التي تناسبهم أو تروق لهم
على مدار عقود طويلة، اقترنت السِّمنة وصورة الشخص البدين في الأعمال الفنية بالصفات السلبية، وربما بالتندر والاستهزاء، وهو الأمر الذي قد يثير الضحك، لكنه يُصدّر الإحباط والازدراء والمرارة لمن يعانون البدانة، حتى وإن اكتسى تجسيد شخصية البدين بالمرح وخفة الظل، كما في عالم السينما على سبيل المثال، الحافل على مر الأجيال بالبدناء المحبوبين من أمثال جورج سيدهم، علاء ولي الدين، شيكو، ويزو، شيماء سيف، وغيرهم.
في الاتجاه المعاكس لهذا التوجه النمطي الكاريكاتيري، تحوّلت بدانة المصريين إلى محطة فنية لزرع الثقة بالنفس، وتعزيز اتزان الجسد والعقل والقلب، وذلك في تجربة التشكيلي إيهاب الطوخي، أستاذ النحت بكلية الفنون الجميلة في جامعة حلوان، الذي يتخذ في أحدث أعماله النحتية والتصويرية من البدانة مصدراً للإبداع والطاقة الإيجابية في معرضه بجامعة حلوان (صيف 2023)، وذلك انطلاقاً من فلسفة أن يقبل الإنسان نفسه، كما هو، ويحرر إرادته من كل الضغوط، كي يكون بإمكانه التغيير نحو الأفضل (لتصعد إلى مكانك، ولا تنظر كثيراً. هذا أنت، ثق بنفسك، فأنت قادر).
تأتي شخصية البدين، ذكراً كان أو أنثى، في أعمال الطوخي مشحونة بالرضا عن الذات، ما يُحمّل هذه الشخصية سمات إشعاعية داخلية، وقدرة فائقة على التحدي، إلى درجة تمكنها من التحليق في الفضاء والطيران مثل طائر رشيق، في دراما تعبيرية وطرح فانتازي قائم على الحوار بين الكتلة والفراغ، والتوافق بين الشكل واللون.
يُحوّل الفنان إيهاب الطوخي (46 عاماً) الترهلات الجسدية أو الحالة الطبية لتكدّس الدهون الزائدة في الجسم (مرض السمنة) إلى أحلام متراكمة، ومساحات شاسعة للأمل والمرح والبهجة، والخفة الإنسانية بالمعنى الروحي الإشراقي، الأمر الذي يسهم في إكساب البدناء اعتزازاً بذواتهم، ويجعل من واقعهم أمراً مقبولاً. وإن كانت هناك رغبة في تجاوز هذه البدانة لاحقاً، فإن ذلك لا يتم أبداً تحت غطاء السخرية أو الانتقاد.
تأتي أعماله مصحوبة بدعوات إلى حُسن تعاطي الفرد مع جسده، فبإمكان الإنسان دائماً الحفاظ على التوازن والعقل ومركز الثقل في أقل تأرجح ممكن لشكل الجسم، وباستخدام أقل دعم ممكن، وذلك على الرغم من فوضوية العالم وجنونه. وفي هذا الصدد يقدّم الفنان النصح: (قف، تدبّر الأمور، انظرْ أمامك وأسفلك، اجلس على مقعدك بأرجله الأربع، احفظ توازنك، حتى لا تقع).
تصاحب شخصيات البدناء في تجربة الطوخي مفردات من عوالم الطفولة والبراءة والبكارة، الدالة على التفاؤل والسعادة والمشاعر المرغوبة، منها البالونات، والأراجيح، والمظلات، والطائرات الورقية، ويمارس البدناء أقصى درجات النشاط والحركة والانطلاق والتمرّد على إمكاناتهم الجسدية، فليس في الحياة عقبات أو مستحيل.
ومن فرط انحياز الطوخي للبدناء، وتعاطفه معهم، تبدو بدانة المصريين لديه منحة أكثر منها محنة، ما يخفف من وقع الأمر المأساوي الذي تعاني منه مصر، إذ تشير الإحصاءات والتقارير المعتمدة من وزارة الصحة إلى أن نحو نصف المصريين يعانون الأوزان فوق الطبيعية، الأمر الذي يعكس درجات متفاوتة من الخطورة على صحتهم وحياتهم، إلى جانب تعرضهم للحرج البالغ الذي قد يصير مرضاً نفسيّاً.
تتخذ أعمال الفنان طابعاً فلسفيّاً، وتغوص في أعماق الكائن الإنساني كهيكل وروح في آن: (لتنظر من الأعلى قليلاً، لترى كل التفاصيل وأنت خارجها، وأنت بعيد عنها، ثم اتخذْ قرارك). وفي سياق تجسيد الفنان للشخص البدين، يتطرق إلى قوانين الحركة، ومعنى الزمن، منطلقاً من أن الزمن يؤثر في حركة البشر، وما دامت الحركة داخل حدود الزمن، فهناك العديد من الأشياء التي تستطيع التفوق على الزمن، وهنا على الإنسان أن يتساءل وهو ينظر إلى المرآة ليحسب خطاه ويحدد مركزه: ماذا بعد التفوق على الزمن؟
ينظر الطوخي كذلك إلى البدانة بوصفها وجهاً من وجوه الإبحار ضد التيار، أو شكلاً من أشكال الاختلاف، ومن ثم فبإمكانه تمثيل أن هناك أوقاتاً لابد أن يسير فيها المرء بكل قوته عكس التيار، عندما يكون التيار غير سوي أو غير متفق مع مبادئ الفطرة السليمة. هنا، يصير على الإنسان أن يستمر على ما هو عليه، وأن يسير بكل قوته عكس التيار الخاطئ، ليحافظ على نفسه، ويبهر الجميع بثباته وإصراره.
هي تجربة إبداعية للفنان، وكذلك فإنها حالة من حالات (الصعود) و(الترقي)، صوب أن يعرف الإنسان قيمة نفسه، ويقدّر قيمة وجوده في الحياة، ومن ثم يحرّك معنى وجوده، ويعطي لنفسه ما يستحق من التقدير والاحترام، ويضع لذاته ضوابط ومعايير تسمح له بالتحرك بحرية دون المساس بحدود الآخرين.

ذو صلة