مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

صناعة السينما في السعودية.. الرهانات والتحديات

تعيش المملكة العربية السعودية منذ سنوات تحولات متسارعة بإرادة سياسية دافعة ومحفزة. تحولات تمسّ في العمق المعتاد والمألوف، وتروم الخروج بالبلاد إلى آفاق أخرى تضعها في زمن جديد مغاير للزمن الذي عاشت عليه المملكة طوال سنوات، وجعلها تبدو بمظهر البلاد الخارجة عن حركة التطور خصوصاً على المستوى الثقافي بالمقارنة مع سائر البلاد العربية. لكن منذ تولى الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد بدأت المملكة تعرف عمليّة تحديث ليست بالهينة بالقياس إلى ما كانت عليه من درجة محافظة كبيرة. هذه الحركة التحديثيّة الآخذة في التقدّم تدريجياً تظهر من خلال التحولات في المشهد الثقافي والفكري في السعوديّة، ولعل الجديد في المملكة هو بداية ظهور صناعة سينمائية وإدخال السينما وجعلها حاضرة في الحياة اليومية السعودية من خلال فتح قاعات عرض راقية أمام الجمهور السعودي الذي لم يتعوّد على ذلك.
التحدّيات
السينما ليست مجرّد أفلام تعرض ونجوم تستدعى لحضور فعاليات مهرجانات تعمل على تحقيق النجاح والتحول إلى مهرجانات تضاهي المهرجانات السينمائية العريقة مثل مهرجان (كان) رغم ما لذلك من أهميّة ترويجيّة ودعائية. السينما هي قبل هذا وذاك ثقافة وفلسفة. فلقد قدّم الفيلسوف الفرنسي الكبير جيل دولوز عدداً من المحاضرات بداية من ثمانينات القرن الماضي مدارها السينما والفلسفة. اعتبر دولوز عمله عملاً فلسفياً يرتكز على السينما وما بين السينما والفكر من صلات ووشائج وقد اهتم الفيلسوف الفرنسي بالصورة/الحركة من منظور فلسفي عميق، لذلك ليست السينما هذا الفن البسيط التجاري الذي يراد من خلاله الكسب الوفير وجني الثروات الطائلة. إن كبار المخرجين هم عبارة عن مفكرين وأعمالهم ما هي إلا أعمال فكرية لكنها تستعمل الصورة/الحركة في مخاطبة المتقبل الذي يجب أن يكون قادراً بما له من تكوين مخصوص على التعامل مع التعبير بالصورة والحركة وتفكيك رموز العمل الفني/الفكري والدخول في تفاعل مثمر معه، لذلك ليست السينما مجرد عرض ترفيهي يستهلكه المتقبل كما يستهلك غيره من المنتجات الترفيهيّة.
إن التحدي الكبير أمام نشر السينما في مجتمع ليست له تقاليد عريقة في التعامل مع هذا الفن، وتحمّل هامش الحريّة الكبير الذي يتطلبه هذا الفن الذي يعتمد على جسد الممثلين والممثلات للتعبير عن حالات نفسيّة ووجدانيّة وعاطفيّة قصوى أحياناً قد لا يكون المتقبل الذي نشأ في سياق ثقافي واجتماعي محافظ مستعدّاً لتقبلها. من هنا يأتي التحدي الأكبر في نظرنا لهذا المشروع المتمثل في توطين السينما في السعودية، وتحويلها إلى بلاد إنتاج وعرض تنافس البلدان العريقة في هذا المجال. السينما تتطلب حريات كبيرة من قبيل حرية التعبير والتفكير والتمثيل، لذلك لابدّ من توفّر هذه الحريات حتى لا تكون هذه الصناعة كالنبتة التي غرست في غير بيئتها وتربتها، وهذا يتطلّب شجاعة لمواجهة ردود الأفعال المحافظة المتحفظة من السينما والفنون عموماً.
يتطلب الأمر كذلك خلق جمهور محب للسينما شغوف بها، وهذا الجمهور يصنع صناعة ويبعث فيه حبّ السينما ليصبح (مدمناً) عليها، ولئن كان الأمر صعباً نسبيّاً بالقياس إلى عشق كرة القدم والإقبال عليها إلى حد إدمانها خصوصاً بعد التحولات التي عرفتها كرة القدم السعودية باستقدام كبار نجوم اللعبة وتحويل الدوري السعودي إلى مسابقة ذات صيت عالمي؛ فإن خلق جمهور يقبل على السينما ممكن عن طريق ما يمكن تسميته بالتربية السينمائيّة، وهي تربية يمكن تكوينها من خلال دمجها في برامج التعليم وفي نشاط جمعيات تعنى بالسينما وتسعى لتعويد الشباب عليها من خلال عرض أفلام ومناقشتها مثلما يحدث في نوادي السينما في كثير من البلدان التي استطاعت تكوين جمهور محب للسينما.
الرهانات
إن رفع مثل هذه التحديات الكبيرة من شأنه أن يسهم في تحرير المجتمع وتغييره وفتح آفاق جديدة أمامه. نعم.. السينما عامل مهم من عوامل التغيير الثقافي والمجتمعي. تبدو الصور القادمة من السعوديّة بمناسبة مهرجان البحر الأحمر معبرة عن تحول مهم في تصورات المسؤولين السعوديين وبخاصة صور حضور المرأة في المهرجان وهي صور تعكس حصول تبدل عميق في رؤية القيادة السعودية للمرأة ودورها وحريتها بما يتعارض مع الصورة النمطية التقليديّة التي كانت سائدة طيلة عقود من الزمن. لقد لفتنا أنه يمكن للسينما أن تكون منطلق (ثورة ثقافيّة) في بلاد تروم أن تعرف تحديثاً يخرجها من تجارب سابقة قوامها الانغلاق الفكري والثقافي إلى عالم أرحب يجعلها منسجمة مع ما حولها ومع ما في العالم مع المحافظة على قيم إسلامية راسخة لكنها قيم لا تتنكر للعصر ولا ترفض الانخراط فيه بقوّة.
توجد رهانات أخرى مجتمعيّة منها خلق أجيال جديدة منفتحة تقبل الاختلاف والتنوع والحوار بعيداً عن أشكال التعصب والانغلاق، بل يمكن للسينما أن تكون أداة فعالة في مقاومة التطرف والإرهاب وشتى الانحرافات الخطيرة بشرط وجود سياسة مدروسة وأهداف واضحة تتجاوز مجرد التجارة والربح.
للرهان على السينما -صناعة وفرجة- أهمية بالغة في إعادة بناء البلاد على أسس جديدة. السينما ليست مجرد أفلام تعرض للترفيه، بل هي ثقافة جديدة من أهم مرتكزات ثقافة العصر. من الصعب أن نتصوّر مجتمعاً دون سينما ودون قاعات عرض ودون شاشة كبيرة.

ذو صلة