ثمة من يرى أن (مهرجان أفلام السعودية) أول ممارسة أهلية تعكس وجود مجتمع للصناعة السينمائية، فهو يجسد مرحلة ذات تغيرات شهدتها المملكة العربية السعوية خلال السنوات العشر الأولى من الألفية الجديدة على مستوى الفن السابع، ولم تأتِ هذه اليقظة الفنية جزافاً، بل تعود أساساً إلى قدرات وإمكانات جيل الشباب السعودي الذي يزخر بالعديد من الإمكانات والمواهب والتدريب والصقل في هذا المجال الحيوي.
نلمس ذلك عملياً من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تُظهر محتوياتها تسجيلاً للأرقام القياسية في المشاهدات، والإمكانات الفنية التي تتمتع بها هذه الفئة. وقد انتقل السعوديون عموماً من مرحلة المشاهدة والتلقي إلى مرحلة الإنتاج، وقد كان لانتشار الإنترنت وتطور التقنية وسهولة الحصول على المعلومة دور في تأسيس جيل كامل من السينمائيين السعوديين الذين صنعوا أفلامهم، وشاركوا في المهرجانات الدولية بجهود فردية يحركها الحماس والشغف السينمائي، وقد مثلت مهرجانات مثل (أفلام من الإمارات) و(الخليج) و(دبي) محطات أولى لاستقطاب إبداعات المخرجين السعوديين الشباب قبل أن يأتي (مهرجان أفلام السعودية) عام 2008م بمدينة الدمام شرقي المملكة، ليصبح هذا المهرجان بدوراته المتتابعة خير دليل على جدية المشروع السينمائي السعودي الطموح.
ما يسترعي الانتباه أنه في السنوات الست الأخيرة أضحى حضور السينما السعودية حقيقة لا يمكن تجاهلها، سواء عبر وفرة الأفلام القصيرة المنتجة كل سنة، والتي تبلغ نحو 70 فيلماً سنوياً، أو عبر الإنجازات التي حققها المخرجون السعوديون في الخارج، ولعل أبرزها الترشيح الأولي للأوسكار الذي حققه فيلم (وجدة) للمخرجة هيفاء المنصور عام 2012م، وفيلم (بركة يقابل بركة) للمخرج محمود صباغ عام 2016م، دون أن ننسى في هذا السياق تنوع المهرجانات التي أقيمت في الداخل، مثل: (مهرجان جدة للعروض المرئية) أو (مهرجان الأفلام القصيرة بالرياض) أو (مهرجان أفلام السعودية) الذي أشرنا إليه في بداية هذه الأسطر. ولا مراء فقد تحقق في هذه المرحلة الحلم السينمائي السعودي أثناء تأسيس صالات السينما التجارية عام 2018م.
قد لا نبالغ إذا قلنا إن مجمل التحولات التي شهدها الفن السابع بالمملكة العربية السعودية مؤخراً قائمة على الجهود التي بذلتها الحكومة السعودية تأسيساً على إيمانها بتفعيل دور السينما لتكون شريكاً في صناعة الوعي المجتمعي العام، بعد مبادرة كسر الحصار عن الفنون والآداب والإبداعات (المسرحية، القصصية، الروائية والشعرية...) إن صح هذا التوصيف.
لذا يبدو أن أهداف الصناعة السينمائية بالمملكة العربية السعودية تسير بوتيرة متسارعة، وبحكم أن هذه الصناعة تحظى باهتمام عالمي كبير فإن حصة المملكة من هذه السوق تحمل آفاقاً واعدة، هذا إذا ما علمنا أن عائدات السوق العالمي قد بلغت العام الماضي 77 مليار دولار.
وهذا محفز كبير لبلوغ المكانة العالمية ضمن الدول العالمية الأكثر تقدماً في هذا المجال. وسعياً إلى ذلك نجد أن وزارة الثقافة تحتوي على إحدى عشرة هيئة حكومية ضمنها هيئة الأفلام التي أطلقت إستراتيجيتها لقطاع الأفلام عام 2021، وركزت بالأساس على إنتاج محتوى سينمائي محلي جذاب للجمهور السعودي والدولي، ثم تقديم المملكة كمركز عالمي رائد لإنتاج الأفلام في منطقة الشرق الأوسط.
من خلال تمعننا في المعالم الكبرى لإستراتيجية هيئة الأفلام يتضح أنها استندت في بنائها عملياً إلى مقارنة معيارية مع أهم 20 دولة في صناعة السينما لاستخلاص أفضل الممارسات المُتّبعة لتكوين إستراتيجية لقطاع الأفلام السعودي، تأخذ بعين الاعتبار متطلبات المرحلة، واحتياجات صنّاع الأفلام السعوديين باختلاف تخصصاتهم.
تتمثل الرؤية المتعلقة بإستراتيجية الهيئة في (ترسيخ مكانة المملكة بوصفها مركزاً عالمياً لصناعة الأفلام في قلب الشرق الأوسط)، ولا يمكن أن تتحقق إلا من خلال بناء قطاع أفلام سعودي إبداعي وتنميته، وتعزيز قدراته على مستوى الأسواق المحلية والدولية، وهذا البناء قائم أساساً من منظور الهيئة على ستّ ركائز إستراتيجية هي: -1 تطوير المواهب -2 البنية التحتية -3 الإنتاج المحلي -4 الإنتاج الدولي في المملكة -5 الإطار التنظيمي -6 توزيع الأفلام وعرضها.
وعلى كل حال فالأهداف التي تروم الهيئة تحقيقها تتمثل في ضمان وصول قطاع الأفلام في المملكة إلى المواهب المؤهلة، وضمان حصول قطاع الأفلام السعودي على المرافق والخدمات المناسبة وبتكلفة تنافسية، وتحفيز الإنتاج المحلي للأفلام، علاوة على جذب الإنتاج العالمي للأفلام إلى المملكة، وخلق بيئة تنظيمية تعزّز تنمية قطاع الأفلام، وتحفيز الطلب على الأفلام السعودية في الأسواق المحلية والعالمية المُختارة.
هذا وقد تضمنت إستراتيجية القطاع الثقافي غير الربحي التي أطلقها وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود مبادرة لتكوين 16 جمعية مهنية للمثقفين والفنانين، وهكذا أعلن عن إنشاء أول جمعية مهنية للسينمائيين السعوديين تحت اسم (جمعية الأفلام) لتضم المحترفين في الصناعة السينمائية.
برز إلى جانب الجمعية المهنية عدد من المنظمات غير الربحية في قطاع الأفلام، منها (مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي) وتتولى تنظيم (مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي) بجدة - المنطقة المصنفة إرثاً إنسانياً عالمياً وفق اليونيسكو-، بالإضافة إلى جملة من البرامج من أبرزها (صندوق البحر الأحمر لدعم المشروعات السينمائية) و(جمعية السينما بالمنطقة الشرقية) التي آل إليها تنظيم (مهرجان أفلام السعودية)، وعدد من أندية هواة الأفلام مثل (نادي ألوان السينما) و(نادي الصالون السينمائي) و(نادي عرب آكت) في جدة و(نادي وثيقة في الأحساء). والحق أن هذه الكيانات تمثل في نهاية المطاف وجوهاً أهلية للقطاع، ومحفزاً للمجتمعات المحلية للانخراط في تكوين صناعة سينمائية حتى يتخذ المشهد السينمائي المحلي الراهن طابع المعاصرة والتنظيم بما يجعل العرض السينمائي حدثاً يوميّاً ومجالاً من مجالات الاستثمار.
على كل حال، فقد مرت السينما بالمملكة العربية السعودية بأكثر من لحظة ميلاد، بداية بوجود مكان للعرض، مروراً بانتشار الأماكن المحدودة، ثم انحسارها في السبعينات، انتقالاً إلى الحضور في مناسبات استثنائية منتصف العقد الأول من القرن الميلادي الحالي، ووصولاً إلى لحظة تدشين مشهد مختلف في 2018م. وإذا حاولنا استقراء المشهد السينمائي السعودي اليوم فلا خلاف أن هذه المرحلة الراهنة هي البداية الحقيقية لحركة سينمائية احترافية -على صعيدي الإنتاج والتلقي- قادرة على المنافسة الإقليمية والدولية، وهذا يتطلب تسخير كافة الإمكانات لدعم هذا القطاع، لكن في ظل توجهات الدولة و(رؤية 2030) يمكن تحقيق أحلام ومستقبل الصناعة السينمائية السعودية.