تدق الخامسة -إنه صاح بالفعل- اعتاد عقله على ذلك الموعد، يحضر فطوره وقهوته المحضرة بعناية كالعادة.
يستقل الحافلة العامة.. يحب أن يتسلى بحكايا الآخرين، تأخذه عوالمهم، يجد لمشكلاتهم آلاف الحلول، لكنه لم يجرؤ يوماً أن يعرض تلك الحلول، يكتفي بالصمت -رفيقه الظل- منذ سنوات.
تجري أيامه كلها على هذا النحو، تتشابه في التفاصيل كلها، تمر الأيام والسنين وهو على تلك الحالة، لم يشتك لأحد يوماً، يراه الجميع راضياً وسعيداً، لكنه هو وحده من يشعر بالبركان.
أتراه يخشى عليهم أم أنهم لا يُبالون؟
يريد أن يسمعه أحد، أن يحكي دون توقف.. مجرد آذان صاغية دون انتظار رد، لكنه لم يجد أحداً ربما حاول مراراً وربما لا، لا يتذكر جيداً.
جل ما يذكره أنه تعايش مع هذا الأمر، واكتفى بالمشاهدة.. أصبح هو مجرد آذان صاغية لما حوله.
يذهب إلى غرفته الأثيرة، تحفها الكآبة والظلام، يقرر أخيراً أن يفتح النافذة يسمح للهواء بدخولها، يستند إلى أريكته -يغفو ربما- يكتب لعل الورق الأبيض يمتص حكاياته، مشاعره وآلامه ويفرغ هو كل طاقته السلبية، يبدأ من طفولته، يتذكر كم كان طفلاً ودوداً ومحبوباً، كثير الكلام كثير المعرفة.
هل انفض الجمع من حوله أم هو من انعزل؟ لا يتذكر.
كان طفلاً وحيداً لوالديه لذلك كان نصيبه الكثير من الدلال. يحب الناس والاجتماعات والحكايا، يبادر إلى السؤال عن الجميع، ويهتم كثيراً لمصلحتهم رغم صغر سنه، أين ذهب ذلك الطفل الآن؟
ربما بسبب تنمر أصدقائه، بسبب لدغة حرف الخاء، فقرر أن يبتعد قليلاً أو كثيراً -لم يخبر والديه وقتها بذلك- أم عندما اتهموه بشيء لم يفعله نعم صدقه الجميع وقتها، لكن شيئاً ما بداخله قد فقد.
ربما عندما كبر قليلاً، وتغيرت هواياته وأحلامه، أم عندما فقد والديه، فقرر أن يعاقب الحياة على حرمانه منهما بالصمت والاعتزال، ربما عند ضياع حبه الأول والتخلي عنه، أم عندما فشل في وظيفته الأولى، أحاول جاهداً كما يجب؟ لا يهم.
دائماً كان يهمه رأي الآخرين عنه لذلك اهتم كثيراً بتقييماتهم، تغير كثيراً بمرور الوقت، فقد ثقته بنفسه، حاول دائماً أن يرضي الجميع، فأضاع نفسه.
لم يكن يدرك الآن أهو راض عن نفسه أم لا، لكنه أحس براحة عظيمة عندما انتهى من كتابة كل شيء حيث لا أحد سيقرأ هذا، سيبوح بكل أسراره إذاً للورق الأبكم.
يصحو ربما، يقرر الخروج من غرفته تاركاً النوافذ كلها مفتوحة للمرة الأولى، يستقل الحافلة مجدداً، يرى الأوراق تتطاير في كل مكان، من أين جاءت تلك الأوراق؟ لا يهم، يبتسم ويكمل طريقه.