مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

عندما تخضع (الموهبة) للواقع

الإنسان يسعى،
والأهداف مشاعة.
الأهداف فضاء واسع، لا يعرف فيه إلا فضاءات الجغرافيا..
كان الإنسان من قبل يسعى لهدف، فإذا جاب الأرض ولم يتحقق المبتغى نجده يحوِّل شعره إلى عقلانية تامة، قال (ابن زريق البغدادي) بعد أن غادر المشرق إلى الأندلس ليبحث عن لقمة العيش بعد أن سمع (أنها أرض الخير) وما علم أن من لا عمل له عندهم فهو (غفل مستثقل) كما قال صاحب النفح، وقد فوجئ بهذا الواقع فقال متذكراً دياره وأهله في المشرق، ومتأسفاً على ما بدر منه من تركهم ومن فشل مرّ به في غربته:(1)
لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ
قَد قَلتِ حَقاً، وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ
جاوَزتِ فِي لومه حَداً أَضَرَّ بِهِ
مِن حَيث قَدّرتِ أَنَّ اللوم يَنفَعُهُ
فَاستَعمِلِي الرِفق فِي تَأِنِيبِهِ بَدَلاً
مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضني القَلبِ مُوجعُهُ
ولأن الحزن بسبب الفراق وعدم التوفيق في سفره قد حول شاعرية الشاعر إلى شاعرية عقلانية أكثر منها عاطفية مما دفعه إلى التوجه لشعر الحكمة ليمثل تجاربه في الحياة، وهي تجارب تنسحب على أي إنسان، إذ نجده قد قال من القصيدة نفسها:
ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ
عزم إلى سفر بالبين يجمعه
كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ
مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُ
وَما مُجاهَدَةُ الإِنسانِ واصلة
 رزقَاً، وَلا دَعَةُ الإِنسانِ تَقطَعُهُ
قَد وَزَّع اللَهُ بَينَ الخَلقِ رزقَهُمُ
لَم يَخلُق اللَهُ مِن خَلقٍ يُضَيِّعُهُ
لَكِنَّهُم كُلِّفُوا حِرصاً فلَستَ تَرى
مُستَرزِقاً وَسِوى الغاياتِ تُقنُعُهُ
وَالحِرصُ في الرِزقِ-وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت-
 بَغِيٌ.. أَلّا إِنَّ بَغيَ المَرءِ يَصرَعُهُ
وَالدهرُ يُعطِي الفَتى مِن حَيثُ يَمنَعُه
عفواً، وَيَمنَعُهُ مِن حَيثِ يُطمِعُهُ
إلى قوله:
وَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا شَكرٍ عَلَيهِ فعنه اللَهَ يَنزَعُهُ
وشاعر آخر وهو (مهيار الديلمي) قال ناصحاً عن الدنيا بعد أن فركته الحياة؛ وهو ذاك البارع في الوصف والنسيب: (2)
فاذكرونا ذكرنا عهدكم
ربَّ ذكرى قرّبت من نزحا
وارحموا صبَّاً إذا غنى بكم
شرب الدَّمع وعاف القدحا
قد عرفت الهمّ بعدكم
فكأنّي ما عرفت الفرحا
إذ نجده قد قال:
متى ضنَّت الدنيا عليّ فأبصرتْ
لساني فيها بالسؤال يجود؟
إذا كنت حراً فاجتنب شهواتها؛
فإن بنيها للزمان عبيد
إذا شئت أن تلقى الأنام معظّماً
 فلا تلقهم إلّا وأنت سعيد
و(الأمير المعتمد بن عباد) في سجنه قد قال مضطراً وخضوعاً لظروف أحاطت به: (3)
دعا لي بالبقاء وكيف يهوى
أسير أن يطول به البقاء
أليس الموت أروح من حياة
يطول على الشقي بها الشقاء
و(البهاء زهير) كانت الحياة قد زودته بتجارب أفرزت منه ما قاله ناصحاً: (4)
لا تَعتِبِ الدَهرَ في خَطبٍ رَماكَ بِهِ
إِنِ اِستَرَدَّ فَقِدماً طالَ ما وَهَبا
حاسِب زَمانَكَ في حالَي تَصَرُّفِهِ
تَجِدهُ أَعطاكَ أَضعافَ الَّذي سَلَبا
وَاللَهُ قَد جَعَلَ الأَيّامَ دائِرَةً
فَلا تَرى راحَةً تَبقى وَلا تَعَبا
وَرَأسُ مالِكَ وَهِيَ الروحُ قَد سَلَمَت
لا تَأسَفَنَّ لِشَيءٍ بَعدَها ذَهَبا
ما كُنتُ أَوَّلَ مفدوح بِحادِثَةٍ
كَذا مَضى الدَهرُ لا بِدعاً وَلا عَجَبا
فرُبَّ مالٍ نَما مِن بَعدِ مَرزِأَةٍ
أَما تَرى الشَمعَ بَعدَ القَطِّ مُلتَهِبا
وهو ذاك الذي قد قال متغزلاً:
فَيا رَسولي إِلى مَن لا أَبوحُ بِهِ
إِنَّ المُهِمّاتِ فيها يُعرَفُ الرَجُلُ
بَلِّغ سَلامي وَبالِغ في الخِطابِ لَهُ
وَقَبِّلِ الأَرَضَ عَنّي حينما تَصِلُ
بِاللَهِ عَرِّفهُ حالي إِن خَلَوتَ بِهِ
وَلا تُطِل فَحَبيبي عِندَهُ مَلَلُ
إنني أجد أن الموهبة الجادة مطواعة، تتغير بتغير الزمان وتبدل الأحوال، فتجد الشاعر مرة يمدح، وأخرى يتغزل، وثالثة يهجو، ورابعة يفخر فالظروف هي التي تغيره، ولكن العاطفة الجياشة تغلب على هذه الموضوعات، غير أن تبدّل الشعر إلى (الحكمة) ينقله من العاطفة إلى العقلانية، وعند هذه الحال يفقد الشاعر تلك العواطف لتتبدل إلى مشاعر تصف الحياة وواقعها.
إلا أن عصرنا الحاضر قد نجد هذا التغير من العواطف إلى العقل قد جاء بسبب كثرة المشكلات التي تحيط بالإنسان في عصر السرعة التي يحاول اللحاق بأيامها عله يجد عملاً، أو يحل مشكلة، فهو والحالة هذه بين أمرين:
- إما ترك موهبته وعدم الالتفات لها، ولهذا كم فقدنا من شاعر كانت له سماؤه وكان له فضاؤه ففقدنا شعره الوقّاد، والذي أصبح دفيناً في بحر لجي تتلاطمه الأمواج، فيضيع هباء.
- وإما أن يصاب الشاعر بجفاف في عواطفه لجفاف العصر الذي يعيشه، فيصاب بخيبة أمل ويكون حاله حال الشاعر الشعبي الذي قال:
كم واحد يطرد ورى الدنيا وعيت تزين
ما زانت إلّا عقب ما ملّ الطراد وعافها
وبعضهم يقنع نفسه بما هي فيه، مثلما نجد عند الشاعر:
وما التفت إلى ما ليس أملكه
وما تمنيت ما غيري تمنّاه
قد اكتفيت بأيامي وعافيتي
 وقد رضيت بما قد قَدَّر الله
على أن معظم الشعر في عصرنا الذي نعيشه قد اقترب من العقل أكثر من العاطفة، فإذا بنا نعيش في عصر العقلانية حتى في مشاعرنا وأفكارنا، وهنا جفّت عواطفنا، زادت على ذلك:
- العولمة وتقارب الناس والزمن والمسافات.
- ووسائل التواصل الحديثة التي حرمت الناس التواصل والتواد، والاكتفاء بالمهاتفة وما توفره هذه الوسائل من وسائط أخرى.
-----------------------------
1 - انظر النص الشعري والتعريف بالشاعر: كتاب تاريخ الأدب العربي- ج3- عمر فروخ ص 90 وما بعدها.
2 - انظر السابق، ص 98 وما بعدها.
3 - انظر: الأدب الأندلسي: التطور والتجديد. محمد عبدالمنعم خفاجي ، ص556.
4 - انظر: الحياة بين الكلمات. عبدالفتاح أبو مدين، ص359 وما بعدها.

ذو صلة