مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

(نياد).. ستينية أمريكية تسبح من كوبا إلى فلوريدا

في يوم الإثنين (2/9/ 2013) وعمرها أربعة وستون عاماً وصلت (ديانا نياد) إلى شاطئ (سماثرز) في (كي ويست) بفلوريدا، سابحة من (كوبا). لقد تحدت الصعاب، وحطمت الرقم القياسي العالمي، وحققت حلم حياتها في سباحة المسافات الطويلة. فكيف سبحت لمدة 53 ساعة متواصلة؟!، وكيف تحمل جسدها مواصلة (177 كم) في المياه المفتوحة؟ وكيف أصبحت أول امرأة تسبح بدون قفص واقٍ للحماية من أسماك القرش المنتشرة عبر مضيق فلوريدا؟!
إنها قصة حقيقية فذة، وسيرة ذاتية مُلهمة لسبَّاحة الماراثون والصحافية الكاتبة (ديانا وينسلو سنيد) الشهيرة بديانا نياد (Diana Nyad) التي ولدت في 22 أغسطس 1949، بمدينة نيويورك. وانفصلت عائلتها عام 1952، فتزوجت والدتها (لوسي سنيد) مرة أخرى من مطور الأراضي اليوناني المصري (أرسطو نياد)، فتبناها، وأخذت لقبه.
كانت (ديانا) موضوعاً لفيلم وثائقي بعنوان: (الشاطئ الآخر The Other Shore) (عام 2013). وذلك قبل بضعة أشهر من أول سباحة ناجحة لها من (كوبا) إلى (فلوريدا). كما دار حول سيرتها فيلم درامي روائي طويل بعنوان: (نياد) (NYAD) (2023)، من ﺇﺧﺮاﺝ: (جيمي تشين)، و(إليزابيث تشاي فاسارهيلي)، وذلك في أول مشروع روائي لهما بعد حصولهما على أوسمة لأفلامهما الوثائقية عن الرياضيين غير العاديين، كالمتسلق الحر (أليكس هونولد) في Free Solo. وقام بتأليف وكتابة سيناريو فيلم (نياد): (جوليا كوكس)، و(ديانا نياد). وأدى بطولته: (أنيت بينينج) في دور السباحة (ديانا نياد)، و(جودي فوستر) (بوني ستول)، و(ريس أيفانز) (جون بارليت)، و(جوني سولو) (أريس نياد).. وغيرهم. وفي الأول من سبتمبر 2023، تم عرض الفيلم في مهرجان (تيلورايد) السينمائي الخمسين، ثم في دور عرض مختارة (20/10/ 2023). ثم شاهده كاتب هذه السطور فور بثه على شبكة (نيتفليكس) مساء يوم الجمعة 3 نوفمبر 2023.
أحداث تحبس الأنفاس
تدهشك الأحداث التي تحبس الأنفاس، فينتابك شعور (بالشفقة) على سيدة رياضية في الستينات من عمرها، وبين (إعجاب ودهشة) من تحمل بدنها، وقوة إرادتها وعزيمتها الصلبة، وتحديها الصعاب لتحقيق حلمها. ففي منتصف الستينات، التحقت بمدرسة (باين كريست) الخاصة، ودربها على السباحة المدرب الأولمبي ومدرب قاعة المشاهير (جاك نيلسون). وبدأت السباحة بشكل تنافسي في سن العاشرة. وبعد تخرجها (1973) في كلية (ليك فورست) في (إلينوي)، بشهادة في اللغتين الإنجليزية والفرنسية، التحقت ببرنامج الدكتوراه في الأدب المقارن بجامعة نيويورك عام 1973، وتابعت مسيرتها المهنية في تسجيل العديد من الأرقام القياسية في السباحة الماراثونية. وفي عام 1974، أنهت سباق خليج (نابولي) (35 كم) في إيطاليا، مسجلة رقماً قياسياً جديداً للسيدات قدره 8 ساعات و11 دقيقة. أما عام 1975، فأكملت السباحة لمسافة (45 كم) حول جزيرة (مانهاتن) بمدينة نيويورك في 7 ساعات و57 دقيقة، محطمةً الرقم القياسي السابق (تم تسجيله بشكل غير رسمي عام 1927) بحوالي ساعة. وفي عام 1979 سبحت مسافة (164 كم) من جزيرة (نورث بيميني) في جزر (ألبهاما) إلى شاطئ (جونو)، فلوريدا، في 27 ساعة و30 دقيقة - في ذلك الوقت كانت أطول سباحة في المحيط في التاريخ. وحاولت (نياد) لأول مرة السباحة من (كوبا) إلى (فلوريدا) في عام 1978، ولمسافة حوالي (180 كم) عبر مضيق فلوريدا. وقد سبحت بمساعدة قفص مقاوم لأسماك القرش، لكن الأمواج العاتية أجبرتها على التخلي عن هذه المحاولة. ولطالما كان معبر (كوبا) إلى (فلوريدا)، عبر مضيق (فلوريدا)، لغزاً وتحدياً بالنسبة لسباحي الماراثون بسبب ظروفه الصعبة، على عكس القناة الإنجليزية. لكنها بعد بلوغها الثلاثين من عمرها، تخلت عن السباحة للتركيز على مهنة الصحافة الإذاعية.
(ديانا) تربط سباحة (كوبا) بالولايات المتحدة
بعد عقود ثلاثة، قررت (ديانا) مواصلة العمل لتحقيق هدفها المستعصي عليها. ففي عام 2011 وصل معدل تدريبها قبالة ساحل (كي ويست) مدة تسع ساعات. وكان تدريبها استعداداً لتحطيم الرقم القياسي. وفي هذا العام (2011) فشلت محاولاتها لمرتين (دون قفص واقٍ). ففي أغسطس، اضطرت إلى التوقف عن السباحة بعد حوالي 29 ساعة بسبب آلام في الكتف، وإصابتها بأزمة (ربو). أما أواخر سبتمبر، قطعت سباحتها بعد 40 ساعة لإصابتها بلسعات قنديل البحر المؤلمة (وربما المميتة عند ابتلاعها). وأحبطت عاصفة رعدية وسوء الأحوال الجوية وعقبات أخرى (كالإرهاق والمرض) محاولتها الرابعة في أغسطس 2012، بعد أن أمضت 60 ساعة في الماء. ولقد كان معدل سباحتها حوالي (3.2 كم)/ ساعة. لذا احتاجت لياقة بدنية جيدة، وعالية الكفاءة، وكان عليها أن تحدد إيقاعاً لسباحتها المتواصلة.
وفي عام 2013، عندما بلغت 64 عاماً، قامت بمحاولة خامسة، بمساعدة فريق دعم مكون من 35 شخصاً ضم (بوني ستول)، صديقتها ومدربتها. وانطلقت يوم السبت نهاية أغسطس 2013 من رصيف (مارينا هيمنجواي) غرب العاصمة الكوبية (هافانا)، حيث يرفرف العلمان الكوبي والأميركي. ولقد واجهت سباحة المارثون (ديانا) رياحاً شديدة، وأمواجاً باردة عاتية واجهتها بذراعيها، وتقيأت عدة مرات بعد ابتلاع كثير من مياه البحر، وواجهت بصمود وصبر لسعات قنديل البحر الخطيرة. فقد شكلت قناديل البحر العائق الرئيس أمام (ديانا) في محاولتها الأخيرة. لذا استعدت لهذا الأمر بارتداء قناع للوجه. كما قام فريق من الغواصين بالتقدم أمامها لإزاحتها وإبعادها مع أسماك القرش بمعدات تولّد تياراً كهربائياً يكفي لإبقاء أسماك القرش بعيدة عن طريقها مما ساهم في تقدمها وإكمال محاولة العبور بسلام. ولأكثر من يومين دون نوم. كان من الأهمية بمكان الحفاظ على التركيز، والذهن المتقد (كانت تشغل عقلها بترديد أغنيات). ومع ذلك راودتها (هلاوس ذهنية) فقالت لمدربتها إنها (ترى النصب الهندي الشهير (تاج محل)، وهي تتوجه نحوه). كما خذلتها قواها البدنية تجنب المستنزفة من فرط استخدام طاقة العضلات (بخاصة عضلات الذراعين والكتفين والظهر). وكادت تستسلم، فتوقفت عن السباحة، ولم تستجب لأي نداء من مدربتها، مما اضطرها للقفز في الماء ورفع معنوياتها عبر التركيز على ضربة واحدة بيدها في الماء، ثم أخرى، إلى أن استعادت قواها المنهكة.
وبعد 52 ساعة و54 دقيقة و18,6 ثانية، أكملت (نياد) السباحة (الأسطورية) في الثاني من سبتمبر 2013. فعبرت مضيق (فلوريدا) الذي يفصل بين الأراضي الأميركية وجزيرة (كوبا). لتصبح أول شخص يتمكن من السباحة الحرة فيه بدون زعانف صناعية أو قفص حماية من أسماك القرش. بينما كانت الأسترالية (سوزي مروني) (22 عاماً)، أول من عبر المضيق سباحة عام 1997 داخل قفص للحماية من القرش. وقد خرجت العشرات من القوارب والسفن لتحية (ديانا) وتشجيعها في آخر 100 ميل، ثم بوصولها التقطوا صوراً معها.
وصرحت عقب تلقيها على الشاطئ بعض العلاج (لتورم وجهها وشفتيها): (إنه حلم حياتي ونجحت في تحقيقه، وأنا سعيدة جداً بوجودي معكم.. إنه لا يجب على أي شخص الاستسلام مطلقاً، وإن تحقيق الأحلام غير مرتبط بعمر الإنسان، بل على الناس أن يحققوا كل شيء يضعونه في أذهانهم). كما عبرت عن أملها في (أن تلهم خطوتها آخرين على العيش حياة نشطة مع تقدمهم في السن، وكذلك المساعدة على تعزيز التفاهم بين الولايات المتحدة وكوبا/البلد الغامض... كما هو الحال في كل مساعي الحياة، لا ينجح شخص واحد بمفرده. والحقيقة أننا، كلنا، نجحنا في هذا العبور)... وقد قدم الكثير منهم خبرتهم ووقتهم الثمين خلال السنوات الأربع من تدريبنا والمحاولات السابقة. ولم يحصل أي منهم على أي تعويض مالي. لقد كنا جميعاً في هذا الحلم معاً، باسم المغامرة الكبرى، وصنع التاريخ، وتكوين صداقات تدوم مدى الحياة.. وفي عيون من لا أعرفهم رأيت الأمل، ورأيت الشوق في القناعة بأننا إذا رفضنا جميعاً الاستسلام، فسوف نتغلب على تحدياتنا، وسوف نحقق تطلعاتنا.
وبعد محاولتها الناجحة، دُعيت (ديانا) للقاء الرئيس (أوباما) في المكتب البيضاوي فقال لها: (لقد أوضحت لنا الطريق لإعادة ربط بلدينا). وخلال جولة أوباما للسلام في كوبا عام 2014، دُعيت لتكون جزءاً من الوفد المرافق له. وسمعت خطاب الرئيس (راؤول كاسترو) للشعب الكوبي: (إذا كانت بطلة السباحة (ديانا نياد) تستطيع السباحة وسط أسماك القرش لربط بلدينا، بالتأكيد يمكننا إقامة هذا الاتصال بأنفسنا).
محطات من حياتها
- بينما ينتهي الفيلم عند هذا الحد، لا يزال السباحون في الماراثون منقسمين حول ما إذا كانت السباحة (بدون مساعدة) أو (بمساعدة)، ويعكس النقاش الآلام المتزايدة لرياضة تتألف في المقام الأول من الرياضيين المغامرين الذين لا تمثل المنظمات والقواعد الرسمية لهم بالضرورة أولوية. أرادت (نياد) أن يتم الاعتراف بسباحتها على أنها (بدون مساعدة).
- في الأيام التالية لتحقيق حلمها، انتقدها بعض النقاد لعدم اتباعها المبادئ التوجيهية الصارمة (قواعد القناة الإنجليزية)، التي تحظر على السباحين لمسافات طويلة ملامسة/ الاتصال بآخرين: شخص أو قارب الدعم. واعترفت (نياد) بأنها تعرضت لملامسة من قبل أعضاء فريق دعمها الخاص أثناء ارتدائها أو إزالتها معدات تحميها من لسعات قنديل البحر الخطيرة (الضرورية لإنقاذ حياتها). إلا أنها أصرت على أن هذا الاتصال كان (عرضياً)، وأنها لم تلمس قارباً أبداً أثناء السباحة.
- فازت بثلاث بطولات للمدارس الثانوية في ولاية فلوريدا في سباحة الظهر على مسافة 100 ياردة. كانت تحلم بالسباحة في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 1968، ولكن في عام 1966 أمضت ثلاثة أشهر في السرير مصابة بالتهاب الغشاء التاموري للقلب، وعندما بدأت السباحة مرة أخرى فقدت سرعتها.
- بعد تخرجها من مدرسة (باين كريست) (عام 1967)، دخلت جامعة (إيموري)، لكنها طُردت منها بسبب قفزها بالمظلة من نافذة بالطابق الرابع. ثم التحقت بعد ذلك بكلية (ليك فورست) في (إلينوي)، حيث استأنفت السباحة، مع التركيز على المسافات الطويلة. ولفتت انتباه (باك داوسون)، مدير قاعة (مشاهير السباحة الدولية) في فلوريدا، الذي قدمها إلى السباحة الماراثونية. بدأت التدريب في أونتاريو. وسجلت رقماً قياسياً للسيدات قدره 4 ساعات و22 دقيقة في أول سباق لها، وهو سباحة لمسافة 10 أميال (16 كم) في بحيرة (أونتاريو) في يوليو 1970، واحتلت المركز العاشر.
- أكد المختصون أن (ديانا) على مر سنين عمرها كانت سبَّاحة غير عادية. تمتعت بالتحمل والإرادة والانضباط والصلابة الذهنية. وهي أمور ربما لا يتمتع به شخص أصغر سناً. لقد حافظت على لياقتها البدنية، ومارست الرياضة معظم سني حياتها، حتى تكون لديها عافية بدنية وعضلية وذهنية: (أنا حقاً لا أريد الجلوس وتناول الشوكولاتة والنظر إلى لقطات كوبا للسباحة لبقية حياتي. لكنها الذكرى السنوية العاشرة، وقد أعادني ذلك إلى مكان أشعر نحوه بالإلهام، فقد كان وراء كل ذلك التحدي.. لقد اكتسبت هذه المهمة قيماً حياتية بالنسبة لي كان لها صدى أعمق بكثير من مجرد حدث).
- في عام 1978، ضُمت (نياد) إلى قائمة مشاهير السباحة الماراثونية الدولية، وإلى قائمة مشاهير الرياضة النسائية الدولية في عام 2006.
- قامت (ديانا) وصديقتها لاعبة كرة المضرب المحترفة السابقة (بوني ستول) بتأسيس شركة Brava Body غير الربحية لتقديم نصائح حول التمارين الرياضية عبر الإنترنت للنساء فوق سن الأربعين. تقول المخرجة (فاسارهيلي): ديانا شخصية قادرة ومعقدة لا تعتذر، ولا يمكن الاستهانة بصديقتها ومدربتها بوني ستول أيضاً... إن القدرة على استكشاف العلاقة بين هاتين المرأتين الرائعتين اللتين رفضتا الاعتقاد بأن الوقت قد فات في حياتهما لإنجاز هذا الشيء الاستثنائي؛ كانت فكرة خاصة ومهمة.
- ركزت (نياد) على علاقتها، صعوداً وهبوطاً، بين امرأتين قويتي الإرادة، حيث أقنعت (نياد) صديقتها (ستول) بأن تكون مدربتها، ورفضت بعناد الاستسلام حتى بعد أن كادت تموت بسبب لسعات قنديل البحر، وبعد أن رفضت (ستول) في البداية دعمها.
- بوصفها مؤلفة وصحفية ومتحدثة تحفيزية؛ ألفت (نياد) العديد من الكتب، منها: (شواطئ أخرى) (1978)، وفيها وصفت السباحة الماراثونية بأنها (معركة من أجل البقاء ضد البحر، والنصر الوحيد الممكن هو لمس الشاطئ الآخر). ولها أيضاً: التدريب الأساسي للنساء (1981)، (العثور على طريق) (2015)، الذي ركز على سباحتها (التاريخية). كما كتبت لصحيفة نيويورك تايمز، ومجلة (كل الأشياء في الاعتبار) على قناة NPR، ومجلة نيوزويك، وجهات أخرى.
- يبقي أنها بعد نجاحها، ومع تورم شفتيها، سحجات فمها، تحدثت بصعوبة بثلاث رسائل: أولاً: لا ينبغي لنا أن نستسلم أبداً. وثانياً: نحن لم نكبر أبداً لنحقق أحلامنا. وثالثاً: تبدو السباحة وكأنها رياضة فردية لكنها تتطلب فريقاً.
في الختام
عند تأمل حياة كثير ممن تخطوا الستين من العمر نجد أنها حياة مليئة بالحركة والإنتاج والعطاء، وتحقيق الطموحات والأماني والأهداف والأحلام. وخير شاهد على ذلك هذه السيرة الذاتية لسباحة المارثون، الستينية الأمريكية (ديانا نياد)، ومن قبلها الفتاة البحارة الأسترالية (جيسيكا واتسون) (Jessica Watson)‏ التي انطلقت في 18 أكتوبر 2009 بمفردها وهي صاحبة 16 عاماً تتحدى مخاوفها، وتقاوم وحدتها، وتتغلب على مشاق مغامرتها دون أية مساعدة لتحقق حلمها كأصغر شخص يُبحر بزورق شراعي في رحلة بحرية حول العالم. حيث أبحرت لأكثر من 38 ألف كيلومتر بحري في 210 أيام، محطمة بذلك الرقم القياسي، ومُنجزة بنجاح بالغ حلم حياتها، وقد سجلت تجربتها في فيلم (روح حقيقية) (True Spirt) (فبراير 2023). ولعل (ديانا)، و(جيسكا)، ومن قبلهما الكثيرون من الشيوخ والشباب يحققون عنوان كتاب (مت فارغاً) Die Empty 2013 للمؤلف الأميركي (تود هنري). وفيه ينصح بأن يموت المرء مستنفداً كل أهدافه وأمانيه وأحلامه. فالقبور مملوءة بمن كان لديهم الكثير من الطموحات والأماني والأهداف والأحلام، لكنهم لم يحققوها.

ذو صلة