بالرغم من ثبات الحداثة في لحظات محددة تبث فيها ما تنتجه، فإن المجتمع المعاصر لم يعط نفسه وقتاً لمراجعة تلك اللحظة التي زادت وطأتها في المجتمعات الحضرية، مستغلّةً الاغتراب النفسي للناس بالمسارعة لتملأه بمحتوىً صارخ يفتنُ الأبصار ويُرغِمها على تتبّعه والبحث عن آخر مستجدّاته، ومع الوقت فإن ما يبدو غريباً لحظويّاً يصبح مألوفاً، لذا تنتفي الغربة، وتتحوّل لمعايشة وتعوّد، وبذلك تنتقل الرأسمالية لمرحلة أخرى، من ملء الاغتراب بالتفاهة إلى تعميق التفاهة وإيهام المجتمع بأنها أصالة وابتكار وإبداع، فيما الذوات تغرق أعمق وأعمق في بحارٍ غزيرة من السخافة والضآلة.
أسئلة المسرح: محاولات بيتر بروك
العمالقة وحدهم من يستطيعون ببصيرتهم النافذة مساءلة ما يُقدم من فن وأدب، هم وحدهم القادرون على تعرية الحداثة السخيفة التي تتشدّق بالتفاهات.
كان بيتر بروك من موقعه كمسرحي بارز، حريص ليس فقط على تقديم مسرحٍ جاد يتأصّل فيه الإبداع، بل امتد بتأثيراته ليسائل ماهيّة المسرح، مستطلعاً ضرورته وأدواره وإلى أين يتّجه.
وابتعاده عن تقديس المفاهيم الحديثة جعله يرفض المسلّمات ويتّجه ناحية السؤال كمدخل للاستكشاف والتجريب ومحاربة الدخيل والطارئ.
إعادة المسرح للمسرح كانت المهمة المضنية التي حملها على كاهله فسار بها طيلة مشواره الحافل بالمنجزات في سنواته الـ97.
إن تحويل المسرح لمحاضرات دعائية أو تمثيليات تهريجية، أو ترويج لعقائد باطلة أو حركات استبدادية كانت من المهمات التي رفض بروك الاضطلاع بها، بل حاربها حرباً شرسةً بلا هوادة، مستعيناً بالسؤال كمنطلق لما يمكنه أن يقدم في المسرح، وبغض النظر عن حصوله على الأجوبة أو لا، فإن إيمانه بقدرة السؤال على تحفيز وتكوين العمل المسرحي، كان إنجازاً لافتاً ويستحق التقدير والتنويه.
برفضه للتقديس عارض الأسس الفنية التي تبنّتها الإمبريالية المتوحّشة.
فكان يريد تعريف المسرح من خلال المسرح، وبما أن صاحب الشيء هو الأدرى بخصائصه، فإنه اتجه مباشرةً للمسرح في سؤاله عن المسرح، فلماذا المسرح؟ وما قيمته؟ وهل للمسرح علاقة بالحياة المعاصرة؟ وما نوع هذه العلاقة؟ وهل حان الوقت للاستغناء عن المسرح؟
وبمقدار تساؤلاته انبثقت أعماله وتنوّعت تحديثاته في الجسد المسرحي، تمثيلاً وتأليفاً وإخراجاً، تنظيراً وممارسةً، إذ كلّما توسّع في تساؤلاته وتفسيراته فإنه يجد حاجة ضرورية للمزيد من التوسّع، فلا إجابات نهائية، وكل يوم يحمل معه فرصة تغيير، ومع كل فرصة تغيير هناك إضافة بالإمكان استقطابها للمسرحية.
محوريّة الجمهور
في إطار إيمانه بالتكاملية المسرحية، فهو مع تركيزه على دور الممثل والمخرج والنص وأدوات المسرح، لم ينس المتلقّي، أي من تُوجّه لهم المسرحية، الجمهور.
فللجمهور دور لا يمكن إلغاؤه في وجود المسرح، وهل هو ضرورة؟ أو ترف يمكن الاستغناء عنه؟
لذا بتركيزه على الجمهور يصر على أهمية أن يكون للجمهور رأي يخص ما يريدونه في المسرح ولأي سبب؟
فرغبة التغيير ما لم تلازم المتفرج في حياته فإن المسرح لن يكون ذا مغزى في استمراريته، ويكون الاستغناء عنه خياراً مطروحاً، بل مرغوباً، ما دام المشاهد نفسه لا يحمل رؤية التغيير في حياته، والمسرح باعتباره صورةً للحياة فإن أهميّته تتقلّص وتصل لحد الانزواء وحتى التلاشي، ما دام الجمهور لا يرى فيه سوى أوقاتٍ معدودة من الإمتاع الآني الزائل. بالعكس ممّن يرون في المسرح ضرورة حياة، فإن المسرح ينتعش في محيطهم ويجابه كافة التحديات برباطة جأش مستعيناً بالجمهور لتشكيل رؤية ثابتة في صمودها، متغيّرة في عناوينها، لتدل على التفاعلية التي تميز الحياة مثلما تميّز المسرح.
وبهذه العلاقة يحدث الأثر الذي ينزّه المسرح عن التسليع التجاري، فبأصالته الجماهيرية، نقداً وممارسةً، فإن الأثر يمتد لإثراء الحياة بالفن النبيل.
وإذ يسارع الممثلون الهزليون للسعي للاستفراد بالجماهير عبر الضحك والمقالب والقفشات الساخرة في هزليّة سهلة ممجوجة، باتت بسماجتها تغطّي معظم المسارح، فإن الممثل الحقيقي يستعين بالمواقف المضحكة كوسيلة من الوسائل لإيصال الصوت المسرحي للحياة، فتكون السخرية باستهدافها الجمهور لا تستهدف إضحاكه لضمان استمرار التوافد على شبّاك التذاكر للمزيد من العروض الساخرة، بل تكون السخرية لإيقاظ الحس النقدي للمشاهد وتنمية الفكاهة الإنسانية لجلب الحكمة والتدبّر فيما يُعرض.
فليس التصفيق المتكرر هو الهدف، ليست الضحكات المتعالية هي الغاية، إن حمل الجمهور على التفكّر هو غاية الفنان المسرحي الحقيقي.
الارتجال: مسرحة المَشاهِد
الموهبة التي لا تضع نفسها في الموضع المناسب لن تتمكّن من تنمية حدودها ولا توسيع مهاراتها.
مادام الممثل منغمساً في مسرحه، فإن إمكانيات الارتجال بما هو غير مألوف، تتولّد في تكوينه المسرحي فيأتي بحركات أو بكلمات أو ردود أفعال أو مشاهد لا تخل بغرض العمل ذاته، وفي نفس الوقت فهي تمد المسرحية بالجديد الذي يجعل المتفرّج ينفجر ضاحكاً من إيماءةٍ شاردة أو حركة عابرة أو كلماتٍ مقتضبة.
فيصبح الارتجال بمثابة عمل حقيقي له أصوله وقواعده بالرغم من انطلاقه من عفوية الفنان ومعايشته للدور المنوط به.
فالارتجال السليم برغم انبعاثه من المجهول فهو يضيف للنص الأصلي كما يضيف للأداء المسرحي.
وقدرة الارتجال لا تأتي من العدم، بل تأتي من تهيئة الفنان لذاته المسرحية بالاستعداد لاستقبال كافة الخواطر والشوارد التي قد تطرأ عليه في لحظةٍ ما، فيوظّفها التوظيف الأمثل في نفس اللحظة لتُحدِث الأثر المذهل في الجمهور.
لقد ركّز بيتر بروك في سعيه لمسرحٍ حديثٍ بالفعل، على ضرورة عدم الانفصال بين الممثل والجمهور، فالممثل يجب عليه أن يفهم الجمهور وماذا يثيره، وكل الأدوات المساعدة من عزف أو إشارة أو إنشاد، بإمكان الممثل بها أن يستشف مزاج الجماهير وميولها لاستقبال ما سيقدمه، وبالتالي تتيح له معرفة أين وكيف يتوجّه الانسجام مع جمهوره، وكلّما اتحد الممثل بالجمهور فإن العرض يصبح ساحة تجريب وتنوير، ويكون تمرير المشاهد وتتابعها سلسلة تميّز وبراعة، تحوّل المسرح لصورةٍ من صور الحياة، ليست صورةً متكرّرة كالتي نعيشها، بل صورة من حياةٍ لم نعشها بعد.
على جمهور المسرح ألا يكون رسمياً، متزمّتاً، بل لابد أن يكون متفاعلاً، حاضراً لمشاهدة ما لم يألفوه من قبل، والممثل يستكشف الجمهور، ويضيف لدوره بحسب قراءته الحاذقة للجمهور المتواجد، فلا يتمسك تمسّكاً حرفياً بالنص، لأن في ذلك كبتاً لإمكانيات التجريب والارتجال الفعّال.
الحركة بوّابة التجديد
النص الواحد قد يكون متاحاً على تفسيرات كثيرة، والممثل بإمكانه أداء نفس الدور باختلافات تميّزه في كل عرض، كما أن تنوّع الأدوار في نفس المسرحية مع كل عرض قد يأتي بتحديثات مبهجة وفكاهية مُحدِثةً تغييراً تفاعلياً لا يمس جوهر العرض بل يمس بشكلٍ مباشر طريقة العرض، وفي هذا ما يحمل معه الإدهاش والبراعة المسرحية.
لذا فالمسرح المُؤثّر يفرض على المشتغلين فيه ألا ينحصروا في حدود معينة، تفرضها إملاءات المال، أو رغبات عشوائيّة للعامة أو ثقافة إقليمية منكمشة في مدارها الضيّق.
ولتوسيع إنجازات المسرح، على المسرحي الاطلاع على الثقافات الأخرى، ورؤية كيف يمكن الانغماس فيها، وتقديمها برؤية مواكبة للعصر، وكل مسرحي يستسلم لما تعلّمه ولما يشاهده مسبقاً فإنه يحكم على نفسه بالانغلاق، ممّا يقلّص من حدوده ويوسّع الهوة بينه وبين قدراته المخبوءة بداخله التي تنتظر منه الإذن لتنطلق وتبدع.
يصر بروك على أن اليقين مسألة على الفنان أن يبذل عمره في سبيل الوصول له وتأكيده، فمن يقف عند حدٍ معين يحكم على نفسه بالموت البطيء معرفياً وفنياً.
المسرح حركة، وعلى المسرحي إفناء ذاته في ذات المسرح للوصول لليقين.
ويقتضي التجريب في مسرح بروك أن يُولي اهتمامه باللحظة، فلا مكان للقوالب الجاهزة، وحتى الرؤية الأوليّة للنص تخضع لاحتمال التغيير مع ما يستجد من أفكار أثناء التدريب، فالاحتمالات المفتوحة تجعل النص مهيأً لاستقبال الأفكار الجديدة التي تطرأ أثناء التحضير والاستعداد للعمل، وهذه الذهنية المفتوحة تجعل من العمل المسرحي متعة لا تنقضي لأن أبوابها مشرعة دوماً على ما يُعزّز صلابة العمل، إنه يعارض التلقين الذي يحوّل الممثلين لآلات جامدة تتحرك وفقاً لسيناريو معد بالكامل، مما يُغلق آفاق التجريب.
الهدفيّة في العمل تنتصر للفكرة، فالمشهد الأول قد يختلف عما هو مكتوب، والمخرج ليس جنرالاً صارماً يرسم خطته لضباطه، بل المخرج يشارك مع أصغر ممثل موجود ويستعين بأيّ أداةٍ تقع ناظريه عليها، ليدمجها في مشهدٍ أو لقطةٍ أو إشارةٍ ما.
وعلى الممثل أن يعد العدة لهذا الاندماج الكلي، بحيث إن الخشبة المسرحية ليست لوحدها عالمه، بل المسرح بكامله عالمه الفريد الذي يحق له التحرّك والتجوّل فيه متى ما استدعت الحاجة لذلك.
استمراريّةُ التجريب استمراريّةُ النجاح
المخرج هو القبطان الذي يضمن استقرار سفينته واستمرارها في الاتجاه الصحيح، مع عدم تجاهل الفرص التي تتيحها الأفكار والقدرات الموجودة في المسرح، وجودة العمل تتجلّى بالاستفادة القصوى من الإمكانيات الموجودة، فحتى المسرح الفقير يُصبح غنياً بفضل تكاتف المسرحيين وحسن تقديمهم لوظائفهم المطلوبة.
ومن الواضح أن مسرحاً بهذه الروحيّة لا يمكن أن يخضع للتسليع أو المباشرة أو التقريرية، إنه ليس بالمسرح الموجّه للمتخمين ومنغلقي العقول، هو مسرح يحتفي بالجمهور كما يحتفي بالممثلين، ويحتوي بالوسائل المساعدة البسيطة كما يحتفي بالنص، ويحتفي بالحركة كما يحتفي بالكلمة.
فالمخرج يعرف مقدار المسؤولية الملقاة على عاتقه، وهو في استيعابه للنظريات النقدية، لا يتوانى في نقد نفسه قبل أن ينتقده الآخرون، إنه لا ينتظر من يصحّح له خطأه، لأن مجالات التجريب تستلزم انتهاج واتّباع مختلف الرؤى المتاحة بما يحقق هدفية المسرحية، وبدون هذه التجريبية فلا إمكانية لبروز إمكانات جديدة، فهو في تحديده لمعالم العمل المسرحي لا ينسى أن يعطي لبقية ما لديه من وسائل (ممثلين- ديكور- مساحة) الإمكانيات؛ لتفويضها من أجل بلورة مشهد أو لقطة جديدة، لذا فإن تناغم الممثلين معاً وحسن توظيفهم لمهارات الجسد، والوثوق بالحدس يعطيهم القابلية لابتكار المزيد من المشاهد المؤثّرة، ففيما يعمل أحد الممثلين حركةً لتوريط زميله الممثل، فإن زميله يكون مستعد مسبقاً لهكذا مقلب، وبالتالي فإن ردة فعله تكون مبتكرةً بعفويتها، مما يخلق الأثر الفني المتوهج.
لا قدرة للمسرح التجاري على مجاراة مسرح بروك
لقد نذر بروك حياته في سبيل تنمية وتطوير مسرحه، متخذاً السؤال مرشداً يدلّه على الطرق المتنورة في كهوفٍ مظلمة.
المسرح بكونه أبا الفنون، يمتلك ناصية القيادة الإبداعيّة إعلاءً لشأن فنون الأداء.
مسيرة بيتر بروك تشير إلى أن الفنان الحقيقي يستطيع قهر الظروف وخلق ظروفه الخاصة، لتحرير الفن.
هذا هو المسرح الذي يمسرح الأفكار، وتتمظهر الإمكانيات فيه بالصورة الأسمى للفن الراقي الذي يحارب رأس المال التجاري، ويجعل من الإنسان والطبيعة وكافة الموجودات هدفه الجليل.