مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

اللعنة عبر التاريخ في فن التحريك (الأنيمي) الذي يتغذى من الأدب

تتماشي قصة مسلسل الأنيمي (جوجوتسو كايسن) مع ما يعرف بلعنة الكلام أو لعنة الأدب أو العودة لأصول فكرة اللعنة، لخروج إبليس من الجنة وطرده وملاحقته للبشر ليتذوقوا من معاناة لعنته، فبمجرد أن نفكر في لعنة الكلام نجد أن الحياة المزدوجة التي يعيشها الكاتب هي لعنة بحد ذاتها تصاحبه إلى ما لا نهاية، كما هي الحال مع كتابات ديستوفيسكي في استخراج المكبوت النفسي من شخصياته التي تتوالد في مخيلته، وتعيش على أرض الواقع الروائي وتصاحبه بعمق فكري مرحلة طويلة من حياته، بل وتُشكل نوعاً من الصراعات منها الكابوسي، ومنها الذي ينشأ عنه العوالم المتفرقة، وبما يتناسب مع ألم التفكير بالبؤس والتشرد، والقتل والظلم وجحود الأب والإخوة، كما في روايته الإخوة كارامازوف.
فالعذابات عند ديستوفيسكي لا تنتهي بمجرد نهاية الرواية، ولكنها تبدأ في الحياة عندما نلمسها في الأفكار المظلمة التي يعيشها الكاتب قبل سواه في منفاه المسمى عزلة كتابية بعيدة عن البشر، ولكنها مع شخصياته التي تنمو وفق رؤيته المتوجة بالقضاء على الشر أولاً، تبعاً لفكرة الحياة القائمة على الخير والشر، والنفس التي ترفض الانحدار الأخلاقي، والأخرى المتمسكة بالفضيلة والأخلاق الحسنة، مع التمسك بالقوة التي يمكن من خلالها أن تُساعد في التخلص من اللعنات التي تقع على الكثير من المخلوقات على الأرض، ولا ندرك كنهها أو أصولها أو حتى دوافعها التي تؤدي إلى كثير من المعاناة التي يردها البعض إلى سوء الحظ. لشحذ العقل على بث المزيد من المشاعر، لنتعاطف بشكل أكبر، وربما في هذا الكلام الكثير من النقاط المشتركة مع كبار الكتاب أمثال روسو وفلوبير، وبعيداً عن سيلفيا بلاث أو حتى إدغار ألان بو أو حتى تلك الأفكار التي تقود صاحبها إلى الموت تماماً، كما حدث لسقراط الذي أُجبر على شرب السم، وبمعنى مجازي أكثر أصيب بلعنة العبقرية في حياته. فهل فكرة الأنيمي (جوجوتسو كايسن) هي فكرة قديمة جداً تتناول معنى أصول اللعنات، لتقديم صورة عن العالم المُظلم في العصر الحديث؟ وهل الخطأ والصواب والخير والشر مفردات يجب فهمها جيداً للسيطرة على ما يسمى لعنة الشر، ولعنة الخروج من عوالم النور؟ وهل لكل شيء نهاية حتى للعنات؟ وهل المعارك في (جوجوتسو كايسن) متخيلة في ذهن المُشاهد قبل أن تتم أمامه في فن تحريك مذهل خصوصاً في أغلب المعارك؟ أم جمالية الإخراج والموسيقى والأبعاد في المعاني تجعل من كل مشهد مفتوحاً على عدة محاكاة لظلامية الشر للخروج منه ومن لعناته التي لا تنتهي؟
تُشكل فكرة القتال في حلقات (جوجوتسو كايسن) نوعاً من الابتعاد عن الفكرة الجافة الناشئة عن فكرة الصراع مع اللعنات التي ترافقنا، ونحاول القضاء عليها عبر مجازيات فن الأنيمي هذا، وما قدمه من مشاعر عاطفية في الكثير من الحلقات التي ربطت بطل القصة بأصل اللعنة الصادمة المؤسسة لكل ما تبقى من أحداث مأساوية أصابته، واستطاع أن يحصد منها الكثير من الحكمة التي تتسرب للمُشاهد، وتحقق له معرفة واسعة في معنى اللعنة ومنشأها؛ لتعزيز معنى الفضيلة والخير وبناء الإنسانية، والسعي نحو الأفضل في الحياة، واستبدال مشاعر اليأس بالأمل واللجوء لمقاومة الحزن عند فراق من نحب، كما حدث في الحلقة الأولى وموت حبيبته التي تحولت فيما بعد لحمايته من وساوسه بشكل مجازي؛ لتبعده عن الوهن والاستسلام، وإن بدت الشخصيات غريبة الأفعال والحركات منها المحزن ومنها الهزلي والكوميدي، أو إن شعر البعض بالمبالغة في المعارك القتالية المثيرة بصرياً، إلا أنها غالباً تصوغ المواقف الإنسانية وتغزلها بفن هو أقرب لجميع المراحل العمرية وصولاً إلى أعمار الخمسينات، فالمعنى يستحق أن يبقى في الذاكرة، وإن بأسلوب فن التحريك أو الأنيمي أو من حيث قدرة الأنيمي على تبسيط الفكرة رغم تعقيداتها القوية المتغلغلة في أصول اللعنات في الحياة أو عبر تاريخها الميثيولوجي ومعناها النوستالجي وحتى الدرامي والأدبي، وغير ذلك الكثير لو فصلناه لاحتجنا لدراسات طويلة. فهل الواقع المظلم من عناصر الحياة القائمة على الازدواجية في كل شيء؟ وهل الشيء الوحيد الذي مُنح بشكل متساوٍ للجميع هو الواقع المُظلم؟ أم أن سوء العاقبة ليس شيئاً تلقائياً كلياً كما يقول ميغومي في الحلقة الرابعة من جوجوتسو كايسن؟
ما بين الخير والشر والفضيلة والرذيلة خيوط ألفا أوميغا، وتجاذب الزمن بكافة تفاصيله بين القديم والجديد والكلاسيكي والحديث، وكأن الإنسان يعيش مع لعنة إبليس منذ طرده وإلباسه اللعنة لذريته حتى اليوم رغم أن بطل جوجوتسو كايسن يريد «أن يستمتع المزيد من الصالحين بالعدل، حتى لو كان عددهم قليلاً» فهل قصص الأنيمي في الحلقات كافة تشكّل نوعاً من الأسطورة التي تندمج مع مزايا العصر السريع بشكل قتالي فسيفسائي الميزة بصرياً؟ وهل يكشف كاتب (جوجوتسو كايسن) عن زمن تزداد فيه الصراعات بسبب اللعنة الأولى والكشف عنها لإزالة الحيرة من النفوس التي تتساءل عن أسباب الشر على الأرض، وعن الفساد الذي يستمر في كل زمن رغم وجود الخير في قلب الإنسان الذي يريد للإنسانية أن تنعم بالتسامح والخير والفضيلة، وما إلى ذلك من مفردات تعيدنا بشكل فلسفي إلى الأدب القديم بكل حيثياته مع الظلام والسوداوية والشر؟ وهل يمكن إبادة الطاقة الملعونة من البشرية كما تحلم الشخصية الأكثر جدية في هذا الأنيمي؟ أم أن المدينة الفاضلة لا يمكن لها أن تخلو من اللعنات التي تتسرب للبشر وتشكل نوعاً من الخيال المحتمل في عالم الأنيمي؟ أم أن المخرج (هيروشي سيكو) انتصر على لعنة النص الذي خرج منه برؤية جعلتنا نستشعر لعنة الشياطين وقدرات الطاقة السلبية ومؤثراتها على الإنسان؟ وهل أنقذ إيتادوري يوجي الناس قدر استطاعته كما أوصاه جده؟ وهل من نهاية أخلاقية تعيد بناء الفكرة الأزلية التي انطلق منها الكاتب؟
لعنة ولدت من الكره والخوف الذي يكنه الناس تجاه الغير، وقدرة على توليد حركي في فن قتالي مثير للحواس ومحفز للعقل وللوجدان، من حيث عناصره كافة من الصوت إلى الرسوم وحتى الترجمة، فالحركة وصولاً للمعنى المحفز للإدراك التخيلي الملفت للانتباه بشدة مع منح المشاعر بُعداً منطقياً تصاحبه التأثيرات الأسلوبية في النص الذي انطلق منه المسلسل المدعوم بتاريخ اللعنات، وفضول المشاهد في تتبع الأحداث للوصول إلى كنه البناء العقلاني للفكرة برمتها والمقنعة من حيث ميثيولوجيتها القديمة، وهجوم الأفكار على بعضها البعض؛ لتكون بمثابة محاكاة للتاريخ الإنساني أو بالأصح البشري القائم على فكرة الصراع بين الإنسان وإبليس أولاً، ومن ثم صراع الإنسان مع الإنسان، كما هي الحال في حلقات الجزء الثاني من هذا المسلسل الذي ننتظر الحلقة الأخيرة منه، بتشويق مع الاحتفاظ بتاريخ الكثير من اللعنات التي جاءت في الكثير من الكتب واستفاد منها الكتاب والشعراء. كما أن ما يبحث عنه الجيل الحديث من قصص مبنية على الخوارق التي قادها بطل القصة إيتادوري يوجي بمنطق الإنسان الذي وجد ضالته في الحياة، وإن في عالم اللعنات المظلم، وبوتيرة سرد في حوارات غنية بالتحليل لمعتقدات خاصة ببطل القصة الراغب في إنقاذ البشرية من سموم النفس الأمارة بالسوء أولاً لتحقيق الفوز بالعيش في نعيم لا شر فيه، وإن كان هذا من المستحيل في الحياة التي تتصارع فيها الكائنات برمتها حتى الجراثيم والبكتيريا وغير ذلك من التفاصيل التي تجعلنا نلمس روعة الحلقات، وإن كانت القصة غير مبتكرة من حيث نواة الفكرة القائمة على معنى (اللعنة) وهي بالنسبة لواقع الحياة موجودة منذ خروج إبليس من الجنة على الأرض وصراعه مع أجل نشر الفساد في الأرض. فهل ردود الأفعال نحو القصة تختلف بين بيئة وبيئة؟ أم أن الكاتب اعتمد على تحليل اللعنة بمختلف جوانبها الحسية والعقلانية والعاطفية بحسب الأمزجة والانفعالات والتشويق المستمد من سحر الشخصيات؟
كل فكرة تحتاج لصراع لتخرج بأفكار أخرى تستقطب كل منها نوعاً من العقول التي تحاول رفضها أو القبول بها، وبالتالي طالما الفكرة قائمة على التفكير الإنساني المتمسك بالخير والفضيلة من خلال أسطورة اللعنة التي تنطوي على الكثير من المفاهيم الأدبية قبل الدرامية عبر جوجوتسو كايسن بشكل مضاعف في المعاني التي تبرز منها الحكمة في كل حلقة تقريباً، لتفكيك غموض اللعنة عبر التاريخ بأكملها، وليكتسب المشاهد المعنى بأسلوب غير مباشر وعبر فن التحريك أو الأنيمي وقدرته في توسيع المخيلة تحت مظلة اللعنة ذات التشعبات الكثيرة والتي تُشكل نوعاً من الصراع الزمني بين قوى الشر الخفية وبين الإنسان تحديداً؛ لتنتزع منه استقراره إن لم يكن متسلحاً بالمعرفة، وإن بدت الهزلية في بعض المشاهد وبأسلوب جمالي يخفف من حدة بعض المشاهد، ليكون المشاهد بين الجد والهزل يحصد الحكمة المرتبطة بمعنى اللعنة عبر التاريخ الأدبي والفني وفي عصر اختلطت فيه الأوراق، وبشكل نخبوي في بعض منه، كما هي الحال مع فن الأنيمي هذا جوجوتسو كايسن الذي يحصد نسبة تخطت التسعة من عشرة في الجزء الثاني منه. فهل يمكن اعتبار فكرة اللعنة التي تناولها المسلسل قديمة جداً أزلياً مع الكثير من الشعراء الملعونين والملفعين بالكآبة والحزن والقوالب النمطية في الأحداث المتكررة بأشكال مختلفة؟ أم أن شبابية الأنيمي تسكب المعرفة رويداً رويداً في الأذهان لجيل يكتشف تاريخ الإنسانية من خلال فن التحريك؟

ذو صلة