في مؤلفات الموسيقار الروسي بيوتر إليتش تشايكوفسكي، نجد حضوراً بارزاً للأدب وفنونه المتعددة، من شعر ودراما وقصص ومسرحيات وروايات تمثيلية، ذلك أنه اعتمد في بعض أعماله على إبداعات أصحاب القلم، وأخذ يحول كتاباتهم إلى موسيقى، ويعبر عن الأفكار والمشاعر بواسطة الأنغام، ويعيد سرد الحكايات ورسم ملامح الشخصيات الأدبية من خلال فن آخر، قد يكون هو الفن الأقرب إلى الأدب والأكثر اتصالاً به وتداخلاً معه، في مختلف العصور والحقب الفنية القديمة والحديثة. فلطالما شكل الأدب مصدراً من أهم مصادر إلهام الموسيقى، وارتبطت النغمة بالكلمة ارتباطاً وثيقاً من خلال الغناء، ورددت حناجر المطربين كلمات الشعراء وأبياتهم بلغات متعددة، سواء في صيغتها الأصلية، أو في صياغة جديدة تغير الشكل وتحتفظ بالمعنى. وفي الأوبرا تتحول الدراما الثقيلة والمآسي الكبرى إلى غناء، أو إلى نوع من الغناء التمثيلي، نشأ خصيصاً من أجل التعبير عن تلك الفنون الأدبية. وكذلك يعتمد الباليه الكلاسيكي على الأدب، من روايات أعظم الأدباء، إلى الحكايات الخرافية وأعمال الكتاب المغمورين. وما أُلفت الموسيقى التي يوقع عليها الراقصون خطواتهم، إلا من وحي الأدب وأعماله المكتوبة. لكن علاقة الأدب بالموسيقى لا تقتصر على هذه الجوانب فحسب، بل إن الجانب الأعمق والصلة الأقوى بين الموسيقى والأدب، يكمن في التعبير عن الكلمة بالنغم فقط، ما يعني الاستغناء التام عن الصوت البشري والأداء التمثيلي وتعبيرات الجسد الحركية، والاكتفاء بما يعرف بالموسيقى الصامتة أو الموسيقى البحتة، حيث تتحول الكلمة ذاتها إلى نغمة، ويتلاشى وجودها الأول لتدخل في وجود ثانٍ، وتختفي صورتها المنطوقة ليتجلى حضورها الموسيقي المسموع.
كل هذه الجوانب وأشكال الصلات بين الموسيقى والأدب، موجود في أعمال تشايكوفسكي، فجميع أوبراته مأخوذ عن الأدب بطبيعة الحال، وأغلبها يعتمد على أعمال الشاعر والأديب الروسي ألكسندر بوشكين، صاحب المكانة الكبرى في الأدب الروسي بصفة خاصة والأدب العالمي بشكل عام، ينتمي بوشكين إلى المذهب الرومانتيكي، ويعد من أهم أعلام الحقبة الرومانتيكية، وتتميز أعماله بعمقها الإنساني ورهافة موضوعاتها العاطفية، لذا شكلت مادة ثرية لأوبرات تشايكوفسكي كأوبرا مازيبا المأخوذة عن قصيدة بولتافا، وأوبرا ملكة البستوني المأخوذة عن قصة من قصصه القصيرة، وأوبرا يفغيني أونيجين المأخوذة عن إحدى رواياته التي كتبها شعراً، وتحمل نفس عنوان الأوبرا، لحن تشايكوفسكي تلك الرواية العاطفية المأساوية على أفضل ما يكون، ورافق بموسيقاه فصول الحكاية منذ أن كتبت تاتيانا رسالة إلى يفغيني، تعترف فيها بحبها له كما تفعل بطلات القصص التي تقرؤها، وكانت سبباً في تعاستها، حيث عاشت بين صفحات الكتب في ذلك العالم الخيالي الآمن، ثم اصطدمت بالواقع اصطداماً عنيفاً، عندما رفض يفغيني حبها وسخر من سذاجتها، ونصحها بأن تكف عن قراءة تلك الكتب. وفي هذه الرواية توجد شخصية لينسكي، التي يقال إنها المعادل الخيالي لشخصية ألكسندر بوشكين نفسه، لينسكي شاعر مثقف عاشق للكتب والفن والجمال، يقف نقيضاً صارخاً مقابل شخصية يفغيني العابث التافه. الغريب أنه عندما وضع بوشكين شخصية يفغيني في مواجهة مع شخصية لينسكي، وجعلهما يتبارزان حتى الموت، قرر بوشكين أن يكون المنتصر هو يفغيني، وأن ينهزم لينسكي ويموت برصاصة من مسدس يفغيني، والأكثر غرابة هو أن الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين قد مات في مبارزة أيضاً بالطريقة نفسها التي كتب بها مشهد موت لينسكي في روايته، كما لو أنه كان يكتب مشهد موته الخاص.
أما باليهات تشايكوفسكي الثلاثة التي لم يلحن سواها، فكلها مستوحى من الأدب، وجاءت الموسيقى تعبيراً عن الحكايات الشيقة التي نتابعها في باليه بحيرة البجع، وباليه الجمال النائم، وباليه كسارة البندق، ولا شك في أن باليهات تشايكوفسكي هي الأشهر على الإطلاق، إلى درجة أنها كادت تكون مرادفاً لكلمة الباليه. كباليه بحيرة البجع الذي عرض للمرة الأولى سنة 1877، ولا يزال حتى اليوم من أهم وأشهر عروض الباليه الكلاسيكي، بجمال موسيقى تشايكوفسكي الرهيفة، التي ساهمت إلى جانب الحكاية الآسرة في خلق جاذبية طاغية لهذا الباليه لا تفقد سحرها مع الزمن، ويعبر تشايكوفسكي بدقة مدهشة عن قصة الحب، بين الأمير سيغفريد والأميرة أوديت، الواقعة تحت سطوة تعويذة شريرة تحولها إلى بجعة بيضاء، وكما هي العادة في القصص الخيالية من هذا النوع، يكون الحب هو الخلاص من كافة الشرور، والسبيل الوحيد نحو السعادة والحرية، لذا جاءت موسيقى تشايكوفسكي على درجة عالية من الرومانسية والخيال، تصف ذلك الحب بشكل رائع، وعطف الأمير سيغفريد على الأميرة أوديت ومدى تعاطفه مع مأساتها، وتحديداً من خلال ثيمة البجعة البيضاء، التي تصور ارتعاشات الأميرة البجعة وانكماشها، وانغلاقها على نفسها لكي تحمي جسدها وأسرارها أيضاً، وقيام الأمير بطمأنتها والاقتراب من ذراعيها أو جناحيها بلطف يليق بما فيهما من هشاشة وضعف، فيكون تردد الموسيقى تعبيراً عن تردد الأميرة البجعة بين الخوف منه والثقة فيه، إلى أن تطمئن إليه في النهاية فتصير الموسيقى أكثر قوة وانفتاحاً. وفي باليه كسارة البندق الذي عرض للمرة الأولى سنة 1892، أي قبل سنة واحدة من وفاة تشايكوفسكي، وكان قد بدأ في تلحينه بعد أن تجاوز الخمسين من عمره؛ نلاحظ أن الموسيقار أطلق طفولته الكامنة في أعماق نفسه، ليعبر موسيقياً عن أجواء الكريسماس ولعب الأطفال وفرحهم بالهدايا والحلوى، وكل ما جاء في الحكاية الخرافية التي ألفها الكاتب الألماني إرنست تيودور هوفمان. تحمل موسيقى كسارة البندق الكثير من التنوع في داخلها، حيث ينتقل تشايكوفسكي من ميلودي جميل إلى آخر، كما لو أنه يستطيع أن يؤلف الألحان إلى ما لا نهاية، يطوف تشايكوفسكي العالم بموسيقاه في هذا العمل، من الرقصة الإسبانية المعروفة برقصة الشوكولاته، إلى رقصة القهوة المعروفة باسم الرقصة العربية، والرقصة الصينية أو رقصة الشاي، والرقصة الروسية المعروفة باسم رقصة عكاز الحلوى، كما يوجد الكثير من التنوع الصوتي، حيث استخدم تشايكوفسكي عدداً هائلاً من الآلات الموسيقية في أوركسترا ضخمة، ويحتوي هذا الباليه على مجموعة من الألحان القصيرة، الراسخة في الذاكرة السمعية لدى الكثيرين، فلطالما تم استخدام هذه الألحان في السينما والدعايات والبرامج التليفزيونية وأفلام الكارتون. يخاطب تشايكوفسكي بموسيقاه كافة الحواس لا السمع فقط، فالألحان نفسها تحتوي على الحركة والألوان والنكهات، وكل ما يتصل بالخيال والأطفال والحكايات الخرافية.
واحدة من سيمفونيات تشايكوفسكي الخالدة مأخوذة عن الأدب أيضاً، وهي سيمفونية مانفريد، التي تقف متفردة إلى جانب سيمفونياته الست المعروفة، ذلك أنه لم يمنحها رقماً كغيرها من السيمفونيات، وإنما منحها عنواناً، هو نفس عنوان العمل الأدبي الذي تعالجه، أي قصيدة مانفريد للشاعر الإنكليزي لورد بايرون. تعد سيمفونية مانفريد من أجمل سيمفونيات تشايكوفسكي، ويميزها البناء القوي والأوركستراسيون البديع الممتع، حيث تم توزيع اللحن على الآلات الموسيقية المختلفة، بشكل يظهر شخصية كل منها وقدراتها التعبيرية، والأثر الدقيق الذي تحدثه لدى السامع، وانفرادها بإحساس خاص لا يمكن أن تخلقه أي آلة أخرى، وتبدو الأوركسترا الضخمة في هذه السيمفونية كمجموعة من الممثلين البارعين في مسرحية درامية. عندما قام تشايكوفسكي بتأليف سيمفونية مانفريد، كان خياله مرتبطاً بخيال آخر، هو خيال لورد بايرون الذي عبر عنه بالكلمات في قصيدته، ولا يعني ذلك أن خيال تشايكوفسكي كان مقيداً غير حر، بل يعني أنه كان ملتزماً بالتعبير عن مانفريد وروحه الغريبة النائية، ومثل هذه الأعمال يختلف بالطبع عن أي موسيقى أخرى ألفها تشايكوفسكي من وحي خياله الخاص، وتعكس سيمفونية مانفريد مدى تأثر تشايكوفسكي بالخيال الشعري، بداية من الدخول ذي الطابع الدرامي، مروراً بأجمل الثيمات وأعلى التصاعدات والذروات، ووصولاً إلى الخاتمة المدهشة والعبقرية، حيث النغمات المشحونة بالعاطفة، والقدرة التعبيرية التي تترجم عن شخص يتألم ويعيش مجبراً على كل ما لا يريد أن يعيشه، ويعجز عن تحقيق ما يريده ويرغب فيه، رغم أن بايرون منح بطله المتخيل بعض القوى فوق البشرية، لكنها لم تنفعه في شيء، ولم يستطع أن يتحكم في الزمن وأن يغير أخطاء الماضي ويمحو خطاياه، ولم يقدر أن ينتزع حبيبته من براثن الموت ويعيدها إلى الحياة، ولم يستطع أن ينسى كل ما حدث، حتى الموت لم يقدر على الوصول إليه، فعندما ألقى بنفسه من شاهق الجبل، أرسل إليه القدر من يمسك به وسط ذلك الخواء ويعيده إلى شقائه. اللحن الأساسي في السيمفونية أو الثيمة الرئيسة هي ثيمة مانفريد، التي يتكرر عزفها من حين إلى آخر بتنويعات متباينة، من حيث درجة القوة والتلوين الدرامي، من هذه الثيمة تتولد الأفكار الموسيقية الأخرى، التي تخرج منها وتعود إليها وتتداخل معها، الثيمة حزينة ذات إيقاع بطيء يوحي بثقل خطوات مانفريد وهو يسعى وحيداً فوق جبال الألب محاصراً بالذكريات المؤلمة. تعزف الوتريات هذه الثيمة بشكل أساسي، وأحياناً تدخل آلات أخرى حسب الحالة الدرامية المراد التعبير عنها، أو التصاعد النفسي الذي يصل إليه مانفريد في لحظات معينة. ومن جحيم دانتي أو الكوميديا الإلهية للشاعر الإيطالي دانتي أليغييري، التي ظهرت إلى الوجود سنة 1472 وتعد جزءاً أصيلاً من الثقافة الإنسانية العالمية، استلهم تشايكوفسكي من النشيد الخامس الوارد في هذه القصيدة الملحمية، موسيقى الفانتازيا السيمفونية فرانشيسكا دا ريميني. أما شكسبير فكان له الحضور الكبير بطبيعة الحال لدى الموسيقار المولع بالأدب، فقد ألف تشايكوفسكي افتتاحية فانتازية بعنوان العاصفة، من وحي مسرحية العاصفة لشكسبير، وكذلك القصيد السيمفوني روميو وجولييت، بالإضافة إلى افتتاحية هاملت.
يعد الموسيقار الروسي بيوتر إليتش تشايكوفسكي 1840 – 1893 من عباقرة الموسيقى الكلاسيكية، ولم يكن هو الموسيقار الوحيد الذي توجه نحو الأدب، ليستخرج من كنوزه أعظم الألحان، فكذلك فعل بيتهوفن وموزارت وهايدن.. وغيرهم من الكبار الخالدين، وحرص كل منهم على أن يترك ضمن منجزه الإبداعي وآثاره الفنية، مجموعة من الأعمال الموسيقية المستلهمة من الأدب. حتى إننا نجد للعمل الأدبي الواحد أكثر من معالجة موسيقية، ويشكل هذا الأمر مجالاً رائعاً لعقد المقارنات، والتعرف على الصوت الخاص بكل موسيقار، وأسلوبه في معالجة القصة أو القصيدة التي عالجها غيره. ورغم ذهاب الكثير من مؤلفي الموسيقى الكلاسيكية إلى الأدب، إلا أن علاقة تشايكوفسكي بالأدب على وجه الخصوص، تبدو من العلاقات الأكثر عمقاً وحساسية، ولا يعود ذلك إلى كم المؤلفات الموسيقية التي أبدعها من وحي الأدب، بل إلى رهافة إحساسه، وبلاغته في التعبير عن الأعمال التي يتناولها، وتعاطفه مع الشخصيات الأدبية وتأثره البالغ بآلامها ومآسيها. معروف أن تشايكوفسكي كان قارئاً نهماً للأدب، حريصاً على قراءة الروايات والقصص والأشعار والمسرحيات، وفي رسائله إلى السيدة ناديجدا فون ميك وشقيقه موديست، نقرأ بعضاً من آرائه النقدية الباهرة حول تولستوي ودوستويفسكي وغيرهما من الأدباء، كما نقرأ بعض التحليلات المختصرة والملاحظات الدقيقة الخاطفة، التي دونها حول الشخصيات الأدبية الحاضرة في أعماله الموسيقية.
كان تشايكوفسكي رومانتيكياً، ويعد من أهم أعلام الحقبة الرومانتيكية، وتمثل أعماله النموذج الرائع الذي يجسد ملامح المذهب الرومانتيكي، ويبرز أدق خصائصه وقواعده وأصوله. وعند النظر في اختيارات تشايكوفسكي من الأعمال الأدبية، نجد أن أغلب تلك الاختيارات قد توجهت نحو الأعمال التي تركز على البطل الفرد، كهاملت ومانفريد ويفغيني أونيجين وفرانشيسكا دا ريميني على سبيل المثال. والفردية أو الذاتية كما هو معروف، من أبرز سمات المذهب الرومانتيكي، لذا كانت هذه الأعمال الأدبية بتركيزها على الآلام الذاتية للفرد، تجذب رومانتيكية تشايكوفسكي، وكانت ذاته تتناغم مع الذات الأدبية وتمتزج آلامهما معاً، وكان تعبيره عن تلك الآلام الخيالية، تعبيراً عن آلامه الخاصة الواقعية في بعض الأحيان. ومن سمات المذهب الرومانتيكي أيضاً، طغيان العاطفة على العقل، والنزعة الحزينة، والسوداوية المسيطرة على البطل الذي يدور في حلقة من الذكريات والحسرات، ويكون أسيراً لمشاعره وعذاباته. لا شك في أن تشايكوفسكي من أفضل الموسيقيين الذين قاربوا الأدب، بخيال خصب وعاطفة حارة وإحساس متدفق، وجاءت موسيقاه زاخرة بشتى التأملات وألوان الأحاسيس، بالإضافة إلى التعمق داخل القلب الإنساني وصدق التعبير عن أنات الروح. وبشكل عام يساهم اعتماد الموسيقى على الأدب، في نشر الآثار الأدبية ومنحها وجوداً مغايراً، وللموسيقى دائماً القدرة على التعبير عن خوالج الأدب وترجمة معانيه، كما أن الروح التي يبعثها الأدب في الموسيقى، هي روح العاطفة المشوبة بالخيال المتوهج، وعندما تجتمع الموسيقى بالأدب تتسع المدارك وترقى النفوس، وتتحقق المتعة والفائدة، والمزيد من تأمل الحياة والتفاعل الصادق معها.