مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

فتنة السرد

كان عام (1349هـ/ 1930م) بداية الرواية السعودية على يد عبدالقدوس الأنصاري، عندما أصدر رواية (التوأمان)، وكانت البداية كبقية البدايات في الوطن العربي. أما عام (1378هـ/ 1959م) فكان بداية الرواية الفنية في المملكة، عندما صدرت رواية (ثمن التضحية) لحامد دمنهوري.
وخلال ستة عقود كانت الرواية السعودية تسير ببطء، وغالباً تراوح مكانها: كماً وكيفاً، فالموضوعات -غالباً- تقليدية، والتناول الفني يتراوح بين التقليد والتحديث، باستثناء محاولات رجاء عالم التي اقتحمت ميدان التجديد في رواياتها في مراحل البدايات، بدءاً من رواية (أربعة صفر) التي صدرت طبعتها الأولى عام (1987م)، وتعد علامة فارقة في الرواية السعودية التجريبية.
والنقد في المملكة العربية السعودية لم يواكب الفن الروائي في تلك المراحل، لأسباب، منها: طبيعة النتاج الروائي، وانشغال النقد في تلك المرحلة بمعارك الحداثة التي اتخذت من الشعر -غالباً- موضوعاً لها.
وتعد مرحلة ما بعد حرب الخليج الثانية بداية مرحلة جديدة في الأدب السعودي، وفي الرواية خاصة، فصحب تلك المرحلة ظهور رواية (الرياض نوفمبر 90) لسعد الدوسري، وهي رواية أعدُّها عملاً مفصلياً في الرواية السعودية. وتلت هذه الرواية مجموعة من الأعمال الروائية التي اختلفت عن السائد في النتاج الروائي المحلي، ومنها روايات تركي الحمد، وهنا لا أتحدث عن الجوانب الفنية، وإنما أشير إلى ظهور روايات تخالف ما عُرف عن الرواية السعودية، من حيث تناول المسكوت عنه.
وعندما نتحدث عن الرواية السعودية لا يمكن أن نتجاوز (شقة الحرية) لغازي القصيبي، إذ تعد من أهم الأعمال الروائية في مشهدنا الأدبي والنقدي، وصحب تلقيها انقسام حولها، والمهم هنا التفات النقد إلى الرواية السعودية، بصورة واضحة، وكذلك إقبال القراء على الفن الروائي، ويدل على ذلك معارض الكتب، واهتمام دور النشر، والجوائز الأدبية.
وجاءت رواية (بنات الرياض) لرجاء الصانع حلقة مهمة من حلقات الرواية السعودية، وصحبها حراك نقدي، فكتب عنها نقاد كبار، على الرغم من أنه لم تكن ضمن اهتماماتهم. مع التأكيد أن الاهتمام في تلك المرحلة -كما بدا لي- انصب على جرأة مضامين الرواية، أكثر من الاهتمام بعناصرها الفنية.
ومن هنا بدأت رحلة الرواية السعودية، إذ فتن فيها القراء، ودفعت الكثيرين إلى محاولة خوض غمارها، وأصبحت جنساً أدبياً يزاحم الشعر: إبداعاً ونقداً.
اتجه إلى الرواية بعض كتاب القصة القصيرة، والشعراء، والنقاد، وخاض غمارها الشباب من الجنسين، وفئات مختلفة من المجتمع، مثل: الأمراء، والوزراء، والسفراء، وأساتذة الجامعات، وغيرهم.
تجاوز عدد الروايات الصادرة في المملكة العربية السعودية ثلاثة آلاف رواية، وفي العقد الأخير تجاوز عدد الروايات الصادرة في بعض الأعوام مئتي رواية، ومن هنا يمكن القول إن الرواية فتنة، وتجربتها غواية. ومن خلال متابعتي للحراك الروائي في بلادنا ظهر لي تفاوت هذا النتاج، فهناك أعمال ناضجة، تعبر عن تجارب ناضجة لأصحابها، وهناك أعمال تقليدية، وهناك أعمال لا تمت للفن الروائي بصلة. وهذا التفاوت أمر طبعي، والاتجاه إلى الكتابة عموماً أمر محبذ، وهو حق مشروع للجميع، والحكم للمتلقي.
والتساؤل عن سبب اللجوء إلى الرواية تساؤل جوهري مهم، لتفسير الظاهرة.
وفي هذه العجالة يمكن القول: إن هناك من استسهل كتابة الرواية، وهناك من أيقن قدرتها على التعبير عن المجتمع، لأنها تقدم رؤية جديدة خاصة عن العالم وفق رؤية كاتبها، وهناك من رغب في الاقتراب من الأضواء المسلطة على الرواية، ومن الكتاب من بحث عن المغامرة في تجريب أشكال جديدة، ووجد في الرواية بغيته، بعد رحلة مع الأجناس الأخرى، لقدرتها على تصوير الحياة التي تتسم بالتجدد الدائم، والحركة السريعة في هذا العصر.
وأخيراً، الرواية فتنة وغواية، ومجال للنقد والنقاد، إذ أسهمت في نشاط واضح في مجالات: التأليف، والدراسات، والرسائل العلمية، والمقالات، والمؤتمرات، والندوات، والملتقيات، والحوارات، والمسابقات الأدبية، وغيرها. وخوض غمارها حق مشروع لمن يرغب. والحكم للمتلقي، وأهلاً بهم في عالم الرواية.

ذو صلة