مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

هذا المناضل.. لن تنساه ذاكرة السينما

هو اسم كبير مرموق في ذاكرة السينما التسجيلية المصرية والعربية، نالت أفلامه جوائز عديدة عالمية ومحلية، وشاء القدر أن أكون من آخر معاونيه في آخر سنواته، وآخر من رآه، قبل رحيله الفاجع، لكل محبيه، وتلاميذه.
سألته في مرة، وهو يقود سيارته في أحياء القاهرة:
- ماذا كانت مهمتك في الحرب؟
فرد بهدوء المنتصر: جندي مقاتل.
وهو بالفعل لم تغادره مهمته القتالية، فَراحَ يقاتل بأفلامه التسجيلية (التسعة عشر)، في جبهة الوطن الداخلية، حتى آخر عمره القصير نسبياً (1945 - 1999)، لمناصرة حقوق البسطاء والمظلومين، فهم الغالبية، وهم عنوان التقدم، ولم تفارقه هذه العقيدة، مثلما لم يفارقه التربص بالعدو الإسرائيلي، وتحذير الناس في أفلامه، بأن الحرب لم تنته معهم بعد، في تلك الفترة الزمنية.
وقف مرة أمام واجهة محل، ووجدته ينحني فجأة بقامته الطويلة، يلتقط صندوقاً بلاستيكياً من البضائع المعروضة، وبعدما تأكد من بلد الصنع، قال بصوت مسموع، مستنكراً: صُنع في إسرائيل؟!
وترك المحل غاضباً، مسرعاً بخطوته العريضة، تطوف به أرواح راحت ماتت أمام عينيه، برصاص هذا العدو، فيعزم على التعبير بخطورة القادم في فيلم جديد، مثلما صنع في رائعته/ ثلاثية رفح عام 1982، الذي حصد الفيلم جائزة لجنة التحكيم في مهرجان ليبزج، وجوائز أخرى في أوبراهاوزن، وبلباو، وغيرهم، حيث يوثق بكثافة بليغة في (13 دقيقة) حقوق أهل (رفح الفلسطينية) في أرضهم، ويسجل بجسارة في بؤرة الحدث الملتهب، مشاعر أهلها المنفصلين عن بعضهم بسلك شائك، يحرسه جندي إسرائيلي. والفيلم وثيقة تتحدى الزمن، كأنها ولدت لتعيش في وعي الغد.
ومنذ أن شاهد (حسام علي) في صباه الفيلم الشهير (الخرساء 1961) لحسن الإمام، شدّه عالم السينما، فالتحق بالمعهد العالي للسينما لدراسة الإخراج، وضمت الدفعة أسماء لها بصمات في السينما المصرية لاحقاً، مثل: علي بدرخان، خيري بشارة، داود عبدالسيد، فتخرج مع زملائه في عام النكسة 1967، التي تركت فيهم تأثيراً لا يمحى، وقضى 6 سنوات في الجيش، فكانت سنوات نضال، وتكوين إنساني، ومعرفي، بالغ الثراء.
ثم قدم في بداياته فيلم (إجازة جندي 1972) يقارن فيها بين حياة الجنود المقاتلين بالجبهة العسكرية، والحياة العادية في المدينة، يعيشها المواطن خالي الوفاض، عما يجري على حدود أرضه.
وبعدها كان فيلمه المهم (حصاد عام 1974 مهرجان هويسكا- إسبانيا) حيث التمعت الفكرة في رأسه، إثر انفعاله بخطاب لموشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلي، يسخر فيه من قوة الجيش الصري، وقدرات جنوده، فقرر أن يرد عليه بفيلمه، مستعملاً (أغنية إسرائيلية) حزينة، ينشد مطربها السلام بعدما أصيب في الحرب، مع لقطات وثائقية لنصر أكتوبر، في مفارقة موجعة لأي صهيوني، في ذلك الحين.
المفارقة الأغنية.. ملامح الأسلوب
والمفارقة paradox أحد أهم أساليب المخرج، لا يستعملها بحس ساخر سطحي، فالأمر عنده أجل من الاستهزاء العابر المُفرِّغ لشحنات الغضب، إذ يضع المشاهد في حقيقة الموقف، بصورة تسجل الحقيقة كما هي، ثم يقدم وجهة نظره، عبر المونتاج، وفي شريط الصوت، مثلما فعل في فيلمه اللافت (المعرض 1985)، فيضيف أغاني إعلانات تليفزيونية، لسلع ترفيهية تافهة، مع لقطات من الجرائد، تكذب ما يصرح به المسؤولون في المعرض الصناعي الدولي، و(الأغنية) إحدى أدواته المفضلة، فهو يختار في نهاية نفس الفيلم قصيدة (محمد عبدالوهاب) عن فلسطين، تقابل سردياً لقطات احتجاج المصريين، على وجود (علم إسرائيل) لأول مرة بالمعرض، والأغنية أيضاً يستغلها لنفس المطرب عن القمح، فيبني عليها فيلمه (فيديو كليبب 1998)، لتكون هي محور العمل، يكشف فيها المفارقة الصارخة، بين موضوع الأغنية القديمة (القمح الليلة) التي تحتفي بإنتاج القمح المصري، فيما مضى، تجاورها لقطات متفرقة بروح (الكليب)، عن شُح الإنتاج المصري، والتحول الحاد إلى استيراد القمح، بكميات رهيبة في تسعينات القرن الماضي!
ومن أفلامه: (بيت الهراوي 1995)، (همس الأنامل 1996)، (العيش والملح 1998)، وآخر فيلمين له في العراق (نساء تحت الحصار 1999)، (أوراس.. ترنيمة أطفال العراق 1999).
في حين أنه لم يقدم أي أفلام روائية، وعندما سألته عن السبب، أجابني: لا أحب الفيلم الروائي، ففيه زيف، وتجميل للحقيقة، مع أني تمنيت أن أقدم رواية (الشمندورة) لخليل قاسم، عن حادثة حقيقية بالنوبة.
ولاريب أن من أهم سمات أسلوبه هو اختياره للموضوع الذي يمس البسطاء بوجه عام، فضلاً عن البحث الميداني الدؤوب في عالم شخصياته، ساعده في ذلك دراسته للاجتماع (بكلية الآداب) أثناء فترة التجنيد. كذلك هو يظهر كثيراً بصورته، وصوته، ليجري بنفسه المقابلات، متأثراً بأسلوب (سينما الحقيقة) لمؤسسها الفرنسي/ جان روش، مع مشاهداته الواعية لأفلام الكبار/ أسعد نديم، وصلاح التهامي، وشادي عبدالسلام، وقد تشعر -أحياناً- بتأثره بحس (شادي) الإيقاعي الجمالي، ولاسيما في (همس الأنامل).
هو أيضاً مخرج (اللقطة الطويلة)، غالباً، يجمع فيها عدة أحجام، وعدة حركات للكاميرا في ذات اللقطة، حتى لا يخل القطع المونتاجي بعفوية اقتناص الحدث، في وحدة جامعة بمكوناته البيئية، والنفسية، ورغم أنه شرب حرفية المهنة من (يوسف شاهين) المعروف بقطعاته، ولقطاته القصيرة العصبية، لكن (حسام علي) مخرج واقعي كلاسيكي يتحاشى اللعب التقني بأدواته السينمائية، ولا يتعمد استعراض قدراته، فيبتعد - في أكثر أعماله - عن تفتيت الصورة، ولا يلجأ إلى البناء المونتاجي المعقد، حيث لا يريد أن يشتت انتباهك عن تأمل حقيقة وجوهر مادته الحية، ووصول رسالته بقوة سحر وحيوية واقعها. كذلك استفاد من خبرته العريضة، في كونه منتجاً فنياً، ومن أندر الأسماء التي تتهافت عليها كبرى الشركات السينمائية المصرية، والعالمية، عندما كانت تصور أفلامها في مصر، مما أفاده كمخرج في استغلال قدرته المتميزة في تذليل عقبات التصوير في أصعب الأماكن.
كما أن (اللقطة العامة) المتحركة، كثيراً ما يبدأ بها فيلمه، ليدخل المشاهد في موضوعه، ويفضل -كثيراً- أن ينهي فيلمه بلقطة (مكبرة) ثابتة، يتجمد فيها (الكادر)، ويتحول لصورة فوتوغرافية، لوجه إنساني، قوي التأثير والدلالة، كما فعل في أكثر من فيلم، أهمهم فيلمه البديع (سوق الرجالة 1990)
سوق الرجالة
يعد المونتير/عادل منير، والمصور/ محمود عبدالسميع، من أهم أضلاع الحالة الإبداعية عند (حسام علي)، وعن علاقته بالمصور، قال لي: يهمني أن أحدد للمصور، لحظة الإضاءة المناسبة للمشهد.
وهكذا يبدأ فيلمه سوق الرجالة (24 دقيقة) في ضباب الفجر لنيل القاهرة، ويتجمع على الرصيف عمال المعمار (الفواعلية)، نراهم من ظهورهم، كأنهم أشباح باهتة في كتلة واحدة، يتحركون في ضباب الفراغ، لينتظروا قوْتَهم من هذا العمل اليومي الشاق الذي قد يجيء، وقد لا يجيء.
ومن قرص الشمس، لقرص الطعمية، في نقلة مونتاجية لافتة، فنجدنا في لُب الموضوع، حيث تدور(الكاميرا المحمولة) بإتقان، لتطوف حول دائرة العمال (الغلابة)، يبدأون يومهم بالتهام الطعمية، والفول، في الشارع، يتبعها لقطات (ثابتة)، يحترم فيها (المخرج) الحالة الشعورية التي تبدو في نظراتهم الزائغة، كأنها لا تعرف هل ستأكل غداً، أو سيصعب الحال؟! وتتحرك (الكاميرا) بعدها، (دون أي تعليق من معلق خارجي، وهو ما تتسم به أيضاً أفلام مبدعنا)، ثم يفاجئنا المشهد التالي بمكان مختلف مشحون بالحركة، والجلبة، ونتابع معها (سيارة نقل) لأخد بعض العمال من (قهوة العمال) بالميدان، لمكان العمل، لكنها تترك أضعاف ما أخذت من الرجال، ممن ينتظرون دورهم، ولا يعرفون مصيرهم.
ثم يداهمنا بمهارة عنوان الفيلم، يصاحبه الموسيقى التصويرية (انتصار عبدالفتاح) بمذاق متوتر، وقاتم، تتصدرها الوتريات، ثم بعدها في المشاهد المتتالية، يلعب الناي، والمزمار الصعيدي، دوراً إيحائياً مهماً.
وتطفو في ذاكرتي كلماته، في ندوة لمناقشة أفلامه، عندما ردّ على أحد الأسئلة، ببسمته الحانية، ونبرته الودودة:
- أنا لا أُكذّب ولا أقلل تصريحات المسؤولين المفعمة بالأمل، لكن الفيصل والنتيجة عندي هو انعكاس ذلك على مستوى معيشة، وحقوق المواطن العادي.
ونعود لفيلمنا الذي يستعرض (عشر) شخصيات أساسية، فمن الفلاح/ حمدي عطوة من بلدة (طامية) بالفيوم (26 سنة)، الذي ترك قريته، ليغامر بالسفر للعاصمة، ليجد في المعمار ما يعينه على المعيشة، في المقابل تسافر (الكاميرا)، لتستعرض أسرة ريفية في دارها، ثم أعمال الزراعة المألوفة، في تكوينات تشكيلية قد لا يكون لها داع، لكن سرعان ما تشعر أن هذه اللقطات ربما تم توظيفها، لخلق حالة التناقض الإيقاعي، والموضوعي، عندما يقطع الصورة الناعمة السابقة، على لقطة تعج بصخب ومعمعة البناء المعماري بالقاهرة، وسط كتل الحجارة الراسخة، والأسمنت الذي يغرق أكبر مساحة اللقطات الشارحة لتفصيلات العمل اليومي، لهؤلاء العمال رجالاً، ونساءً في عملهم المُهلك.
ونتنقل إلى/ عبدالرحمن علي من أسيوط بالصعيد، وهو طالب بمعهد التكنولوجيا، أتى للقاهرة للعمل بنفس المهنة، لأجل (400 جنيه)، ليسدد بها مصاريف عامه الدراسي، وهكذا حتى تتسلل بنا (الكاميرا) في حركة حرة مركبة، لتقتحم سكن بعض هؤلاء، فترينا بؤس المكان، وجلابيبهم البسيطة الملقاة على الحبال، وليس بعد ذلك سوى أرض، وسقف، وحيطان غير مكتملة، وأجساد لا يسعها سوى أن تفترش الأرض، كأنها محض أشياء. ولا تتركنا عين (المخرج) دون أن يلتقط، ويتأمل مكنون مشاعرهم المكبوتة، عندما يكشف بعدسته، رسماً بالطباشير على الحائط الفقير بالسكن، لفتاة تجلس كعروس في وضع أنثوي فاتن.
ويترك السرد الفيلمي للمتفرج التأويلات، مع تعاقب الشخصيات، وفي مشاهد أكثر حرارة، كما في مشهد الميناء (بتوظيف خلاق لنشرة الأخبار، في شريط الصوت)، حيث يصل بعض الفلاحين من العراق، وتصدمنا (الكاميرا) في لقطات توثيقية للتاريخ، ونحن نرى رجال الشرطة، وهم يضربون بالحزام الفلاحين العائدين عند (بنك الرافدين) للمطالبة برواتبهم المتأخرة، ونعرف أن عنف الشرطة ضدهم، يولّد في أحدهم نفسية كارهة، قد يجعلها مقبلة على العنف.
ويمضي الفيلم إلى عم حسان (67 عاماً)، يكد (بالجاروف) في أعمال البناء، لأجل بضعة جنيهات، تنتظرها أسرته ليلاً، ليتناولوا طعامهم الوحيد في إضاءة ليلية شحيحة، ودرامية الحس، ثم ينتهي الفيلم (بلقطة مكبرة)، حيث يُثبّت مخرجنا/ حسام علي - يرحمه الله - (الكادر)على وجه (طفل صغير) من الأسرة، أمامه طبق الطعام الوحيد، وهو يرفع يده محتجاً، وصارخاً في وجه الكاميرا، يصاحبه صراخ أطفال آخرين من (خارج الكادر)، مع نشرة الأخبار، وموسيقى النهاية، ويا لها من نهاية.

ذو صلة