ستجدهم على طرفي شارع آليكساندر نيفسكي الشهير، الممتد كوليمة بصرية في قلب مدينة سانت بيتربورغ الروسيّة، غير بعيدين عن تمثال يكاترينا الثانية، ينتمون إلى شرائح عمرية مختلفة، بعضهم يفضّل إنجاز لوحات سريعة، لا تستغرق أكثر من خمس دقائق، وتسرّ صاحبها برؤية وجهه مكسواً بمبالغة طريفة، وكثيراً منهم لا يتنازل عن رسم بورتريه حقيقي، يعكس حرفيته وموهبته وقدرته على التقاط تفاصيل الوجه، وما وراء الوجوه في بعض الأحيان.
نشارك الجموع مراقبتها للوحات، والأقلام المدربة على إنجاز مهمتها بدقة وسرعة واضحتين، دون أن يشغلنا ذلك عن التمعن أكثر في عيون شاغلي المكان، حركاتهم، سكناتهم وحواراتهم. ومع كل تفصيل جديد نلتقطه، نمتلئ رغبة في رسم بقية جوانب الصورة، فنطرح أسئلتنا، ونتلقى إجابات سريعة، نكتشف من خلالها أن بعض الرسامين، يستقرون في ذلك المكان منذ خمسة وثلاثين عاماً، وكثيراً ما عرفوا أوقاتاً صعبة لا يرغبون حتى في تذكّرها، قبل أن يشعروا باستقرار تام على هذه الأمتار التي باتت تعرف باسمهم، ويفتخرون بالانتماء إليها.
أتانا صوت إحدى الرسامات، مؤكداً أن جميع من نراهم، هم من خريجي المعاهد الفنية المعروفة في سانت- بيتربورغ وغيرها من المدن الروسية، وعندما رغبنا في محاورتها، قالت بسرعة وخجل إنها اختارت هذه المهنة كي تجعل الناس سعداء برؤية صورهم منجزة أمامهم خلال خمس دقائق، وأنها قبل جائحة كورونا كانت ترسم ثلاث لوحات في اليوم الواحد، وتأخذ خمسمئة روبل على اللوحة، وهذا كسب يكفيها لمعظم متطلبات حياتها، ولكنها الآن تعدّ نفسها محظوظة، إن رسمت لوحة واحدة في اليوم!
مع لقائنا بناديجدا، القادمة من الجنوب الروسي للعمل في عاصمة الشمال، وتحلم برسم أكبر عدد ممكن من وجوهها المنتمية إلى شتى بقاع العالم؛ قرّرنا أن نقصر حواراتنا على الرسامات، ونحاول التقاط تلك الخصوصية التي يتميز بها عملهن.
لا تذكر ناديجدا متى ولد عشق الرسم في داخلها، لكنها تتذكر تماماً أنها اختصت بفن البورتريه منذ كانت في الخامسة عشرة من عمرها، ومع الوقت تكونت لديها رؤية خاصة لوجوه البشر، سرّنا أن تشاركنا إياها: (أرى وجوه البشر مثل الكواكب، وكلّ واحد من هذه الوجوه يتمتع بخصائصه الفردية، بينما أنا رائدة فضاء، مهمتها اكتشاف هذا الكوكب بكل ما فيه: طبيعته، تضاريسه، وأسراره!)
نبقى معها منتظرين قدوم الراغبين في رؤية إبداع رائدة الفضاء، وعندما يتأخر ظهورهم، تفتح ناديجدا حقيبتها، وتخرج إحدى الصور، (لا أستطيع الجلوس منتظرة قدوم الراغبين برسم صورة سريعة لهم، لذلك أحمل معي صوراً كثيرة، طلب مني أصحابها رسمها. البورتريه هو ذاكرة تعيش طويلاً، لذلك يحب الناس تقديمه كهدية في أعياد الميلاد على سبيل المثال، وهي هدية غير مكلفة أبداً، مقارنة بالبورتريه المرسوم بالألوان).
تتأمل ناديجدا صور الشخصيات الشهيرة التي رسمتها، وعلقتها لجذب الزبائن، قبل أن تضيف أنها تكره تلك المرات التي تضطر فيها لرسم وجوه قاسية وشريرة، (أرتاح مع الوجوه الطيبة، الغامضة، التي لا تنتهي علاقتك معها بانتهاء الدقائق الخمس، بل تحمل ملامحها معك إلى البيت، تعيد رسمها بهدوء، تغمض عينيك وتتذكر أي تفصيل أفلت منك. كما أعشق رسم وجوه الأطفال، وتراني في مزاج رائع بمجرد جلوسهم أمامي. اسمي يعني الأمل في اللغة الروسية، ورؤيتي للأطفال دائماً ما تمنحني أملاً جديداً في الحياة).
تضحك ناديجدا بعد ذلك وهي تحكي لنا قصص وجوه مختلفة رسمتها أو رأتها حولها، بعضها يجلس أمام الرسام خائفاً، كأنه أمام طبيب الأسنان، وبعضها يستعجل النتيجة، ويحاول رؤية ما وصل إليه الرسام، غير مصدق أنه سيرى وجهاً يشبهه، مرسوماً على الورق بعد خمس دقائق.
يخترق حديثنا صوت فنانة أخرى، ويعيدنا إلى الأمور الإجرائية، مؤكدة أنه ليس من السهل أن تصبح عضواً في جمعية الفنانين الأحرار لكسب المال على شارع نيفسكي، فلا يكفي دفع رسوم الدخول والرسوم الشهرية. الأمر ليس كذلك، تحتاج إلى إثبات أنك رسام بورتريه جيد. ولا يمكن لأي شخص رسم صور شخصية، فقد لا يحب الشخص صورته.
تكمل محدثتنا، التي عرفنا أن اسمها ناتاليا: (ليست القصة تقنية وحسب، بل من الضروري أيضاً فهم الناس، ورؤية شخصيتهم، ومعرفة ما يحتاجونه).
تستمع زميلتها الجالسة قربها إلى حديثنا، فتقول إنها لم ترسم وجهاً واحداً منذ أسبوع، لكنها لن تغير مهنتها، برغم كل مصاعبها، قبل أن تضيف إن أعضاء جمعية الفنانين الأحرار محدودون، ولا تقبل الجمعية انضمام أعضاء جدد.
وعندما نعيد الحديث إلى جادة الفن، تخبرنا أن أصعب شيء في الرسم هو عندما يتحرك النموذج كثيراً، فهذا الأمر مزعج جداً بالنسبة للرسام.
مرآة المدينة الكبيرة
عندما وصلنا إلى آليكساندرا، كانت تضع اللمسات الأخيرة على أحد الوجوه، وبعد انتهاء حوارها مع بطلة اللوحة، حدثننا بصراحة كبيرة عن مشاكل مهنتها، مؤكدة أنه حتى قبل جائحة كورونا، كان هناك تعامل بارد من قبل الشعب مع الموسيقى والرسم، وهو مؤشر على مشاكل جديّة في المجتمع، فأهل بيتربورغ متذوقو فن من الطراز الأول، وعندما تراهم يمرون بحيادية من أمام موسيقي أو مغنٍ أو رسام، فكن على ثقة أن أزمة غير عادية تواجههم، وأن الخوف من المجهول، يدفعهم لادخار نقودهم بدل تبديدها من أجل لوحة أو معرض فني.
وبالانتقال للحديث عن الرسم، تمنت أليكساندرا وهي تضحك، لو كان بإمكان الزبون الجلوس من عشرين إلى ستين دقيقة، عندها يمكن للفنان رسم الصورة باستمتاع أكبر، وحرفية أعلى.
طاقة الوجوه
رسامة أخرى، من مدينة فلاديفستوك الواقعة في أقصى الشرق الروسي، حدثتنا عن تجربة الحياة في الصين، والرسم في شوارع مدينة بكين، مغدقة الامتنان إلى تلك التجربة التي منحتها خبرة روحية، جعلتها تبدو شابة في نظر الجميع برغم اقترابها من الستين، (التأمل يمنحني طاقة كبيرة للرسم، وعندما أتأمل الوجوه، أشعر أني أمدهم بطاقة إيجابية تساعدهم على إخراج أعمق ما في وجوههم من أسرار. مرة رسمت أحد الوجوه فاستغرب صاحبه النتيجة، وكاد يقول لي إنه رسم فاشل، لكنه عندما تأمله جيداً، ابتسم قائلاً إنني وصلت إلى أماكن بعيدة جداً. في تلك اللحظة أدركت أن قراءتي المختلفة للوجوه هي أسلوبي الذي يميزني عن غيري).
تابعنا تنقلنا بين الرسامات واللوحات، مستمعين إلى رأي فنانة ترى الرسم هواية بالنسبة لها، ولن يتغير الأمر أبداً، لكن هذه الهواية الممتعة تطعمها، وتدعم عائلتها. بينما تؤكد زميلتها أن الرسم هو معنى الحياة، وأن القضية ليست قضية هواية أو احتراف، بل اليقين أن الحياة ستفقد جلّ بريقها، إن لم تفرد أوراقك كل صباح، وتجهز أقلامك، منادياً وجوهاً جديدة لتملأ المساحة البيضاء.