مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

الدراما وتقنية المؤلف

من منا يتسلل خلسة عن هذا الأوان المعبأ بالحراك التكنولوجي لتستقرَّ حاجته وغرضه عند عمل درامي معين؟ هل ما زالت الشاشة الصغيرة تعطي ذلك الدفق الذي تربينا عليه أم أن العولمة أخذت الكثير من التفاصيل التي عمّدت الكائن البشري لتبدد جزءاً مهماً من شخصيته؟ هل الهدنة المعرفية بوصفها المعيار الأسمى في التعبير والإشادة هي التي تجترح لنا أعمالاً فنية لنحلل مضامينها فيما بعد؟ وهل ثمة هدنة نحتكم لها في مشوارنا الحياتي على جميع الأصعدة الجمالية منها والاجتماعية؟ ولماذا كلما تدفق العالم وضج بالتقنيات الإلكترونية حنَّ الإنسان إلى ماضيه على الرغم من مآسي هذا الماضي؟
أجد أن من الطبيعي تسارع العالم الملحوظ إزاء هذا العصر المعلوماتي، وأن تكون الحياة الراهنة بعموميتها عبارة عن التقاطات آيلة للامّحاء، لا تكفي سعة اليوم لإيفاء غرضها، المهم من كل هذا: كيف لنا أن نعيد الروح الفنية المحترمة في الذاكرة الجمعية، ونجعلها تتلهف للمحافظة على الشغف السابق الذي اعتدناه.
أجد أن من الضروري تصنيف القنوات الفضائية التابعة للمؤسسات الرسمية بحسب الرؤية الفنية التي تتبناها، على أن تكون هذه المتبنيات تحت وصاية لجان مؤهلة لإجازة الأعمال الدرامية، ولعلنا ننظر إلى الواعز الفكري والمعرفي لهذه اللجان وخصوصيتها في كيفية التعاطي مع الدراما تحديداً، كونها خبرت هذا الموضوع والتزمت معناه، وقد تكون هذه البصيرة في أكثر الأعمال الدرامية السابقة التي امتازت بحيازة الجوانب الفنية، فضلاً عن توظيف الجانب الأخلاقي والإنساني، لتكوّن وجهاً فنياً رصيناً يشترط مقومات العمل الفني الرفيع، وقد نوغل في كنه الأسئلة التي تعنى برصانة الأعمال السابقة، وتعيين سماتها الفنية والتقنية لنضمن بعضاً من جوانبها المهمة التي جعلتها مستمرة بعمر فائض علاوة على عمرها الجمالي، ونأخذ على سبيل المثال مسلسل (ليالي الحلمية) لكاتبه أسامة أنور عكاشة ومخرجه إسماعيل عبدالحافظ، لعله المثال اللذيذ الذي اشتمل على نظرة عالمة من كاتب ومخرج وفنيين ومواقع تصوير، ناهيك عن الأداء الحقيقي لجوقة الفنانين الذي عبّروا تعبيراً صادقاً عن حقيقة أيامهم وما يشوبها من اختلاجات سياسية كانت أم ثقافية بشقيها السلبي والإيجابي والتي بدورها تستمكن من مقدّرات البنية الاجتماعية المؤهلة لبناء الفرد وتعضيد مشواره، وهنا يكون لحيثيات المكان حضور فاعل في ماهية النزوع النفسي الذي يضمره الإنسان لينعكس على طريقة تصرفه ونظرته للآخر، فالكائن البشري ابن واقعه بكل المستجدات الفكرية التي تحرّضه على مقبولية الطرح من عدمه، ولعل حمولة الإنسان السيكولوجية المجهزة بمجموعة من السمات والخصال هي التي تصيّره بهذا الهاجس، ناهيك عن الصفات المتوارثة التي يستحصل عليها من أسلافه، ومزايا الأبعاد الأخرى التي يكتسبها من الماء والطين والهواء.
سأوكل العناية إلى مسألتين غاية في الأهمية في المسلسل الدرامي المصري (ليالي الحلمية): الأولى هي مقهى زينهم السماحي، لصاحبه الفنان المقتدر الدكتور (سيد عبدالكريم)، بوصفه دالة مكانية مهمة، لها اعتباراتها النفسية على جلاس المكان من أبناء الحارة، ناهيك عن الدرس السياسي الذي تقدمه، فلو تتبعنا الحقب السياسية التي مرت بها مصر من الملكية إلى الجمهورية لوجدنا أن المقهى قدم لنا ثقافة عالية في الإيثار والشغف الوطني الذي يحفّز الفرد على التصدي للمحتل وسياسة الاضطهاد والقمع، وقد اتخذوا من المقهى عتبة مهمة للنقاش وتلاقح الآراء واصطفاء الرأي الأمثل، فلم نتوقف عند ماهية المقهى بوصفه مكاناً للهو والاسترخاء من صراع اليوم الدائر بجميع مفاصله، إذ حاول الكاتب أن يمرر لنا صورة واضحة عن ملامح المجتمع وأمكنته وقتئذ، مانحاً الكثير من التفاصيل التي أثثت هاجس المكان لتعطي له قدراً عالياً من المكانة بعد أن جرّده من نسقه العام، فلم يعد المقهى عبارة عن مساحة لشرب الشاي وتدخين الأرجيلة، خصوصاً بعد أن تهذّبت أفكار زينهم السماحي عن طريق السجن ليخرج لنا بحلة مغايرة ساعية إلى التنديد وعدم التسليم بالقرارات التي تأتي من جهات خارجية، وهنا تكون الرسالة التي تسللت إلينا عن طريق الكاتب، وهي خلق معيار قيمي جاد عبر مكان لا يملك الأهلية وهو المقهى، وهذه دلالة على بنية المجتمع في حينها، وإن كان يعاني من الفقر والعوز في قوته واستحصال رغيفه لكنه غير متقشف ثقافياً، لعلي أجد أنَّها إحاطة شاملة بكينونة الفرد وجوهره عن طريق المكان وما يتسع من زبائن على مختلف الاتجاهات والثقافات، ونلاحظ فيما بعد أن المقهى في الأجزاء الأخيرة بدأ يفقد رواده من أصحاب الروح الثائرة، وقد فقد كل شيء تقريباً إلا الاسم، السؤال الجدير بنا أن نجيب عنه: لماذا كلما تقدم بنا الزمن ازدادت الهوة ثقافياً وإنسانياً، بل حتى مجتمعياً؟
المسألة الأخرى التي أعطت وجهة واضحة عن حقيقة المجتمع هي مدى اتساق العلاقات الإنسانية فيما بينها، والمسلسل حافل بمواقف كثيرة، لنأخذ على سبيل المثال لا الحصر، التجاء نجاة (دلال عبدالعزيز) زوجة طه السماحي (عبدالعزيز مخيون) إلى بيت توفيق البدري (حسن يوسف) وزوجته أنيسة بدوي (فردوس عبدالحميد) بعد أن أشار عليها زينهم السماحي (سيد عبدالكريم) بذلك على الرغم من عدم وجود علاقة وثيقة فيما بينهم، وأن أباها كان صاحب نفوذ كبير وعنجهية ناقمة، وما تعرّض له توفيق من اعتقال جرّاء إيواء (نجاة) إلا أنّه لم يرتدع. الموقف الآخر هو ما قاله علي البدري (محمود عبدالعليم) لأخيه عادل البدري (هشام سليم) عندما حصلت مشادة بين الأخير وناجي السماحي (شريف منير) على إثر ابنة عم ناجي السماحي قمر(حنان شوقي)، اختلى علي البدري بأخيه وقال له (ناجي جزء منا، إياك أن تمسّه بكلمة أو تجرح مشاعره، أنت أخويه نعم لكن ناجي أعز منك)، علماً أن ناجي صديق طفولة علي ولا يمت له بصله الدم غير أن الرابطة الإنسانية أكثر عمقاً من أي رابطة أخرى.. وكثير من هذه المواقف النبيلة التي أضاءت محتوى المسلسل وجعلته مثالاً يحتذى به على المستوى الفني والقيمي الهادف.
واقعاً أجد أن أي فعل جمالي على مختلف تشكيلاته المصنفة لا يعطي أثراً هادفاً؛ إن لم يكن يمتلك المعيار الإنساني القويم الذي بدوره يصوب الأحداث التي حصلت بزمانها ومكانها، وهنا إشارة إلى كثير من الإعمال الفنية التي التزمت هذا المنحى لتعيش بيننا من دون أن تصاب بحالة من الترهل والعجز من ناحية المحتوى والمضمون.

ذو صلة