مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

مسرحية الكستيس.. لا منطقية يوربيديس

من أبرز رواد ومؤسسي المسرح اليوناني إسخيلوس وسيفوكلس ويوريبيدوس ومن الملاحظ أن يوريبيدس كان أكثر واقعية من سابقيه وكان أكثر مؤلفي التراجيديا الإغريقية اهتماماً بتحليل النفس البشرية ويبدي تورطاً ملموساً في أمور الدين بكل صوره ولكن تورط المتأمل لا تورط المتدين المتعبد، وعلى الرغم من ذلك فإنه في مسرحية الكستيس لم يكن واقعياً أو منطقياً في علاقة أدميتوس بوالده، وقبل شرح وجهة النظر هذه يجب التعرف على الشخصيات والظروف التي أحاطت بالمسرحية.
أبولو وابنه أسكليبيوس
اختص أسكليبيوس ابن أبولو بمهارة عظيمة في تضميد جراح الناس وشفاء أمراضهم مما حدا ببلوتو إله العالم السفلي إعلان انزعاجه من إطالة هذا الطبيب أعمار الناس فبعث برسالة إلى زيوس مشتكياً منه فاستجاب له زيوس فقذف بصواعق محرقة على أسكليبيوس البريء حتى قتله بقسوة ووحشية لا مثيل لها.
كان ألم أبولو وسخطه هائلين بسبب اغتيال ابنه المفاجئ ولكنه لم يستطع أن يثأر من الآلهة المتجبرين زيوس وبلوتو فاكتفى بأن هبط إلى مصنع الحدادين الذين صنعوا الصواعق المحرقة فما كان من زيوس إلا أن أظهر غضبه علناً وأمر أن يمثل أبولو أمامه ليعاقبه العقاب الشديد وذبحهم عن بكرة أبيهم.
مثل أمام زيوس فسلبه قوسه الفضية وسهامه القاتلة وقيثارته الذهبية وإمعانه في إذلاله وإهانته، فقد ألبسه أسمال شحاذ بائس والأنكى من ذلك أجبره على أن يخدم وهو صاغر أحد الناس سنة كاملة باعتباره عبداً ذليلاً له.
أبولو وأدميتوس
كان المطر يهطل غزيراً والريح تعصف وتهب باردة وفي قصر أدميتوس شحاذ رث الثياب وسخ وجائع. وعرف أدميتوس على الفور أن هذا الوافد أجنبي لأن مدينته تخلو من الجياع. كان هذا الشحاذ أبولو الذي رفض تماماً الإفصاح عن شخصيته ولم يجبره أدميتوس على ذلك وعينه راعياً لقطيع الملك على التلال الممرعة القريبة من القصر. وخلال مدة خدمته رعاه أدميتوس رعاية جيدة فكان يقدم له أفضل الطعام ولباساً من أحسن الألبسة. وبعد مرور عام كامل صعد أدميتوس التل فشاهد شاباً مديد القامة وسيم الطلعة ليس كمثله إنسان، فوق ذراعه تظهر قوسه الفضية، أما قيثارته الذهبية فكانت تزهو بين يديه بعزفه الفريد. لم يدر أدميتوس أهو في الواقع أم في حلم ولكن رد أبولو كان سريعاً: (اسمي أبولو. أجبرني زيوس بجبروته أن أهيم على وجهي لا ألوي على شيء وقصدت ديارك العامرة شحاذاً، جائعاً مهلهل الثياب، ومن فرط حدبك على الفقراء والمحتاجين بادرت إلى إطعامي أحسن طعام وكسوت عريي أفضل كساء وعاملتني كما لو كنت ابنك الحبيب الذي به سررت). ثم قال بكل جدية: (إذا جاء وقت من الأوقات شعرت بأنك في حاجة إلي أو حلّت بك أزمة مفاجأة فأرجوك أن تخبرني لأقدم لك يد المعونة). وهكذا افترق أدميتوس وأبولو على وعد بلقاء عند حاجة أدميتوس الملحة له.
أدميتوس والكستيس
كانت الكستيس رقيقة الحاشية، طيبة المعشر، تضحي بالغالي والنفيس من أجل شعبها على عكس أبيها الملك بيلياس، طاغية متجبر، وضع شروطاً تعجيزية من أجل عدم إتمام زواجها من حبيبها أدميتوس، ولقد طلب منه أن يأتي إلى قصره راكباً على عربة مذهبة يجرها أسد غضنفر وخنزير بري متوحش.
حزن أدميتوس حزناً شديداً وظن أنه فقد حبيبته إلى الأبد ولكنه تذكر وعد أبولو له وبالفعل استجاب أبولو لدعائه واصطاد له الأسد والخنزير المطلوبين واستطاع ترويضهما بسهولة وقاد العربة بنفسه وجلس أدميتوس بجانبه حتى وصل إلى قصر بيلياس الذي وافق على زواج ابنته الكستيس من أدميتوس في الحال.
محنة شديدة
عاش الزوجان أدميتوس والكستيس في سعادة بالغة فترة من الزمن ولأمر ما سقط أدميتوس مريضاً وتبدلت حالته الصحية من السيئ إلى أسوأ وهذا ما ذكر شعبه، أن هدية الزواج التي أهداها أبولو إياه ذات معنى عميق وخلاصتها: إن الملك حين يلم به المرض الشديد، الذي لا برء منه، يستطيع أي متطوع من خاصته أو شعبه أن يذوق غصص الموت بدلاً منه. رفض والداه العجوزان كما رفض أقاربه وأصدقاؤه الموت أيضاً، إلا شخص واحد، تلك المرأة الفاتنة الحسناء، زوجته الكستيس، ذهبت الكستيس إلى مقصورتها وابتهلت إلى أبولو أن تفارق الدنيا بدلاً من زوجها، وفي تلك اللحظة شعر أدميتوس أن علته قد ولت فتعجب من شفائه السريع وهب سريعاً ليلقى حبيبته الكستيس فوجدها هي من ضحت من أجله.
أدميتوس وفيلاس
كان أدميتوس يعامل كل من حوله معاملة رائعة ولكننا فوجئنا بتغير شخصيته وأسلوبه تماماً مع والده حيث وجه إليه سيلاً من السباب والإهانة أثناء حواره معه: (إنني لم أعد أعتبر نفسي ولدك.. لكن ذلك دليل ضعفك وجبنك فلقد عشت حياة مديدة أطول من حياة زيوس.. عندما تموت ستكون محتقراً. اللعنة عليك وعلى زوجتك، فكلاكما يستطيع النمو إلى أرذل العمر..). انطلق أدميتوس موجهاً السباب واللعنات على والديه وهذا أمر غير منطقي بالمرة، فأدميتوس معروف بدماثة خلقه ونبل أخلاقه وأنه لا يفقد أعصابه أبداً عند الحزن أو الغضب والدليل على ذلك أنه وهو في أوج حزنه وأثناء قيامه بمراسم الدفن وفد هيرقل ضيفاً عليه فأكرمه وأخفى عنه حقيقة الحداد الذي يعيش في ظله القصر، وبينما كان هيرقل يعربد في كرم الضيافة الملكية وعاقر الخمر المعتقة، عرف من الخدم المتجهم حقيقة الأوضاع، فتأثر وصمم على أن يعيد الكستيس من عالم الموتى حية إلى زوجها. والسؤال الأهم لماذا لم يجعل يوربيديس الملك أدميتوس يوبخ أحداً من جنوده أو خدمه أو حتى عجائز شعبه الذين من عليهم كثير المن وأعطاهم كثير العطاء.
هل تأثر يوربيديس بما فعله زيوس؟
واجه زيوس والده كرونوس في معركة كبيرة جداً وانتهت بقتل زيوس لأبيه وتربعه على عرش الأوليمب وقد يفسر البعض معاملة أدميتوس لأبيه معاملة فظة لتأثر يوربيديس بمعاملة زيوس لوالده وأن يوربيديس حاول سن ذلك شريعة بأن الابن دائماً معه الحق في أن يحصل على كل ما يريد من الأب، حتى لو كانت حياته.
إن هذا الاعتقاد خاطئ تماماً لأن يوربيديس نفسه كان يشك في وجود الآلهة فقد كان يحتل مكانة كبيرة كمتحدث باسم مدرسه فكرية تضع الإنسان لا اللاهوت في مركز الكون، فلقد كان تلميذاً للسفسطائيين وخصوصاً بروتاجوراس والذي قال: (أنا لا أعرف شيئاً عن الآلهة وما إذا كانوا موجودين بالفعل أم لا..). إن كل خصائص المدرسة السفسطائية نجدها في مسرحيات يوربيديس فالإنسان عنده لم يعد الشريك الأضعف أمام الآلهة.
لم تظهر كل المقدمات والشواهد أن لأدميتوس جانب وضيع في شخصيته بل على العكس فإن كل المقدمات والشواهد قد أظهرت نبل أخلاق هذا الملك الشاب ولم يكن هناك أي مبرر لـيوربيديس في جعل أدميتوس يهاجم والديه بكل تلك الوحشية.

ذو صلة