قبل سنوات كنت في زيارة لمثقف معروف في منزله، وفي الطريق إليه التقيت بأكاديمي مهتمّ بالكتب جمعاً وقراءة، دعوته لصحبتي في هذه الزيارة، فوافق!
أجلسنا هذا المثقف في مكتبته المنزلية المتواضعة، فقد كانت -بحكم ترددي عليه- المكان المحبّب إليه، فيها يقرأ، ويكتب، وفيها يلتقي بأصدقائه وزواره.
كان أوّل شيء لفت انتباه صاحبي الأكاديمي صغر المكتبة، وقلّة كتبها، لذا لم يفوّت الفرصة بعد خروجنا من الزيارة ليسألني: ألا ترى أنّ حضور هذا المثقف وصيته يفوقان كثيراً كتبه ومكتبته المنزليّة؟!
حاولت إقناع صاحبي الأكاديمي المهتمّ بالكتب جمعاً وقراءة أنّ الأمر لا علاقة له بالكم، بل بالكيف، ولكنني -على ما يبدو- فشلت في ذلك، لأسباب من أهمها: أنّ لدى صاحبي الأكاديمي قناعة مسبقة أنّ الكمّ مدخل مهمّ للحكم على ثقافة الشخص وحضوره!
بقي صاحبي الأكاديمي على صورته الذهنية في الحكم على صديقنا المثقف من خلال مكتبته المنزليّة، ووصل الأمر فيما بعد إلى التقليل من شأن المثقف والانتقاص من ثقافته بحكم أنّ مكتبته المنزلية متواضعة، وكتبها قليلة!
أما أنا فقد رأيت أنّ الحكم على ثقافة الشخص لا يمكن أن يُبنى على عدد الكتب في مكتبته المنزلية، لأنّ الثقافة -كما أعلم- لا ترتبط بالكمّ، بل بالكيفية التي يتفاعل بها الفرد مع المعرفة والكتب.
كنت ومازلت مقتنعاً أنّ الثقافة تُقاس بما يقرؤه الشخص، ويفهمه، ويُطبقه، وليس بما يمتلكه فقط!
قد يمتلك الشخص مكتبة ضخمة، لكنه لا يقرأ معظمها، ولا يعيد إنتاج ما قرأ، في حين أن آخرين قد يمتلكون مكتبات صغيرة ويكونون على دراية واسعة بمحتواها!
المكتبة المنزلية قد تُعطي لمحة عن اهتمامات الشخص، لكنها ليست معياراً قاطعاً للحكم على ثقافته.
هناك نماذج عديدة لكثير من المفكرين والمثقفين والأدباء الذين عُرفوا بثقافتهم العميقة ونتاجهم الفكري، مع أنّ مكتباتهم المنزلية لم تكن ضخمة من حيث عدد الكتب، فـ(جان جاك روسو) الفيلسوف الفرنسي الذي أسهم كثيراً في الفكر السياسي والاجتماعي؛ عُرف بأنه لم يكن يمتلك مكتبة ضخمة، بل كان يفضّل الاستمتاع بالطبيعة، والتفكير بعمق في قضايا المجتمع والإنسانية!
في عالمنا العربي كان إبراهيم عبدالقادر المازني -على سبيل المثال لا الحصر- مجنوناً بالكتب، لكنّ جنونه هذا لم يكن بأشكالها وألوانها على رفوف المكتبة، بل بما فيها، ومع ذلك لم يبقَ أسير العدد، إذ قال: اعتدت ألّا أبالي أن يبقى الكتاب عندي بعد أن أقرأه أو يذهب!
أما المثقف السويسري من أصل ألماني (هيرمان هسه) فقد اتخذ قراره القاطع بأن يحتفظ بعدد معيّن من الكتب في بيته، الأمر الذي أرغمه على تنفيذ عمليات التطهير بين حين وآخر كلّما تجاوزت كتبه العدد الذي فرضه على نفسه!
نسيت وقتها أن أسأل صاحبي الأكاديمي: ألم تهدك مكتبتك المنزلية الضخمة إلى هذه المعلومات والحقائق؟!