في الليلة الماضية تكلمت مع ياسمين على الهاتف، والدقائق تمر أسرع من الثواني، تتحدث وأتحدث في لحظة موشاة بالسحر تدغدغ قلبي وتجيش عاطفتي، لا سيما إذا حكت هي وأنصت أنا. حتى أني لا أُمانع من إرهاف السمع إليها أبد الدهر، وأجد السكينة تُدثرني، والراحة تدفع عني مخاوفي، والطمأنينة تبدد قلقي، وأتصور أنني في نعيم لا يفنى، وأتذوق ثماراً لذيذة لم أطعمها من قبل.
ورأيت الحياة تبش لي وجهها حين اتفقنا على زيارتي لها غداً، ولكن في أواخر المحادثة مع الأسف تشاكسنا؛ إذ تفوهتْ بكلام معيب خدش مهابتي وكرامتي، واحتدم على إثره غيظي وتلفظتُ بعبارات قاسية، وما أن أغلقنا الخط حتى خمد غضبي، فأردت أن أنام، بيد إن النعاس طار عن عيني وتدفقت الأفكار في ذهني، وأرقتُ وأنا أرزح تحت احتمالية رحيلها عاقبة لسلوكي، وطفقت أتوهم حياتي إن خلت منها، إنها دميمة فارغة، كما كانت قبل ولوجها، حين سرت زائغاً أفتقر إلى من أشكو إليه همي، ارتعتُ وفزعتُ، وكدت أبكي خائفاً من الفراق الذي توهمته.
تقلبت مراراً على سريري إلى أن اضطررت للنهوض، وكتبت رسالة وبعثتها إليها في الثانية فجراً:
(خليلتي، ليست هذه المرة الأولى التي تشعلين بها فتيل القنبلة، وإن انفجرت أشرتِ بأصبع الاتهام نحوي، ومن المنطق والعقل أن البادئ بالإساءة هو من يتحمل التبعات. أتذكرين سخطك الغريب في غضون دعائي لك بأن ينير الله بصيرتك وترين الحق حقّاً والباطل باطلاً؟ كنت وما زلت مغرماً بذكائك ومشدوهاً به، ليتك تسخرينه للنظر في المشكلة من أولها إلى خاتمتها، وقد أخبرتك سلفاً عن كرهي لهجرك لي في حال اختلفتِ معي. إنني أرتقب الآن متابعة وصالنا، وأتلمس اكتراثك لرسائلي واتصالاتي، دعينا نرتقي في تخاصمنا ونتجاوز المشاكل التي تحول بيننا، وعلينا أن نبقى سوياً. الهواجس تضطهدني، وفرائصي ترتجف.
ألقاك).
الممرضات يطرقن الباب.. سأكمل لاحقاً.
***
اتفق لي أن أنام ثلاث ساعات ومن ثم أفوق استجابة للواجب، إنه صباح اعتيادي لا تستحق تفاصيله الذكر، اغتسلت وبحثت زهاء ربع ساعة في الخزانة عن ملابس داخلية جديدة.
المهم أنني اتجهت إلى مقر العمل، وإبان قيادتي للسيارة لعبت لعبة الأمنيات، تمنيت آنئذٍ لو كنت سوراً يطوّق أرضاً خاوية، أو شاحنة مهجورة، أو ركاماً من تراب تذروه الرياح، أزاولها في سبيل المرح وإشغال عقلي خلال الطريق المزدحم، الذي يتموج بين الأكوام الأسمنتية المتراصة، ورمضاء الشمس تنبعث من السماء والأسفلت.
طيلة ثماني ساعات لازمت مكتبي وانغمست في مسؤولياتي، وراجعت ما أستطيع مراجعته، ما بين تنظيم مواعيد الراغبين بالالتقاء بالوكيل، وإبلاغ الإدارات بتسليم منجزاتهم الشهرية، ثم رتبت المكتب ونظفته، مفضلاً الالتهاء بأي شيء لئلا أهيئ فرصة للحماس الذي يسكنني صوب ياسمين من تقييد جسدي وإقلاق ذهني، يكفي أنني أطل على عقارب الساعة من حين لآخر، فأجدها متثاقلة في سيرها حتى أغتم ويضيق بي المكان ذرعاً.
أما عملي سيادتكم فأوجزه لكم في أنني مساعد لسكرتير الوكيل، وهذا السكرتير مكتبه مجاور لي، وبمرور الأيام باشرت في النهل من باعه الطويل، مؤكداً لي حرصه في تطوير مهاراتي ورفع كفاءتي، ومنذ وقت قريب بات يكلفني بمهامه، وخالجتني سعادة كبرى لتمكني من تنفيذ اختصاصات موظف له خبرة خمسة عشر عاماً. صحيح أنه لا يفتأ عن إعطائي الملاحظات، ولكنني أستمتع أيما استمتاع إن روى لي تجاربه متطرقاً إلى مغازي أعدائه الذين عطلوا تقدمه المهني.
تعاودني مقتطفات من مغادرتي العمل الخامسة عصراً، أحدهم يَطرق الباب، سأواصل فيما بعد.
***
ركنت سيارتي عند منزل خطيبتي العزيزة، وتباطأت نصف ساعة أصفف شعري، واستعنت بقنينة ماء مضى لها وقت وهي على مقعد السيارة، ولكن احتجت إلى المضمضة تحسباً لرائحة فمي إن كانت كريهة، أخيراً ترجلت وضربت الجرس، وفجأة داهمني نكد قاسٍ، في بادئ الأمر أثقل علي جهلي بمنبعه، عدا أنني لم أستغرق زمناً طويلاً حتى كشفته، حيث تذكرت أن السكرتير أخبرني منذ يومين قائلاً: (عذراً يا صديقي) يناديني بهذه الطريقة، أي أنه يحطم الحواجز بيننا بهذا الوصف، وأردف: (طلبني الوكيل رصداً دقيقاً لمنجزاتي، وأخشى أنه يشكك في جهدي، المعضلة أنني أعاني من ضيق الوقت وهو ينتظرني أُقدم له أعمالاً أضنتني على مدار العام، ولكن حصرت الأبرز وبقي نظمها في جدول، هَلَّا نفذت هذه الخطوة، كرماً).
وإذا بصرير الباب يقطع شرودي، ها هو أخوها يرحب بي، حييته وركضت إلى المجلس والأشواق تلهب أحاسيسي، اندفعت نحوها متلهفاً لأسعد بمشاهدة محياها النضير، كي ينشرح فؤادي بتلمس يدها الغضة، ونشرع في فصل جديد لا تشوبه النزاعات، إلا إنني صعقت ساعة لمحتها متربعة في الأريكة، إذ إن رأسها منخفض، وذقنها منكفئ على صدرها، وساقيها مضمومة، ويديها متشابكة فوق فخذيها، وشعرها الأسود ليس مربوطاً مثل العادة، بل منسدل إلى منتصف ظهرها. وبمجرد ما عاينت كمود ملامحها وبهوت بشرتها؛ استأت وأخذت أسألها:
- يا أجمل ما في الكون، ما بكِ؟
حدقت فيّ، ونطقتْ:
- لا شيء
صرختُ قائلاً:
- تكذبين!
صمَتَت، واستوعبتُ مدى حماقتي وتداركتُ خطئي قبل تضخمه، وقلت:
- أرجو أن تغفري لي زلتي، هو حماس ينتابني للقائك، وقد ترددت صورتك في خيالي مذ استيقظت. غفر الله لي، تجاوزت في الطريق عدداً من السيارات مخالفاً الأنظمة، تسلبين تركيزي وأُهمل القانون والأخلاق.
غضت الطرف عن تبريري، وفاءت إلى نقطة البداية قائلة:
- ستتكدر إذا أمطت اللثام عما في خاطري؟
ضعُفتُ وسالت أدمعي، ورفرف قلبي وارتعشَتْ أطرافي، في شتى الظروف أهواها وأرتعب من أن يمسسها ضرر أو أن تكتئب، وأشتهي أن تظل بهيجة وتهنأ بحياة رغيدة، وبودي أن تتدرع بي من الفجائع ونوائب الدهر، وكذلك أتنغص إن اقتنعت بجنايتي عليها، ويؤنبني ضميري وأتألم أياماً ويمضني الحزن، وتساورني الشكوك حول مكانتي عندها، وألبث أفكر إذا كنت قد سقطت من المراتب العليا في قلبها.
رمقَتْني وهرعَتْ إلي تعانقني، ونفَسَها الحار تنفثه على عنقي، وأمرتني:
- تمدد وتوسد فخذي
فعلتُ.. وأكملَتْ:
- زواجنا بعد أسبوعين وأنت لا تبرح تعيد أخطاءك وعثراتك، ما داعي غضبك في الأمس؟ حالما ترحل من عندي تمعن في تصرفك الوقح.
داعبتْ شعري ومررتْ أظافرها الحمراء الطويلة والناعمة على جبيني، وهي تمضي في حديثها إلى صلب المشكلة:
- استوعب، أنا لا أعيش في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، عصر الأمهات والجدات ولّى وأضحى غريباً بالنسبة إلينا. تحركاتي مع صديقاتي بعيداً عن أسوار المنزل من شأني، أما الإصرار على نشل ما تبتغيه، وتكرار الأسئلة، والإلحاح على معرفة كل صغيرة وكبيرة؛ سلوكيات آثمة، وإن أبيت الإفصاح تستشيط غضباً، لا يا عزيزي، إن لم نكن ناضجين لا يحق لنا الإقدام على هذه الخطوة..
تنهدتْ، وقالت:
- على الطرفين، أنا وأنت، أن نحظى بفضاء خاص، وعلاقات خاصة.. وبالتأكيد، لنا منطقتنا التي نَعَرج إليها وننعم بها بوشيجة الحب..
استرسلت عشر دقائق، وحين انتهت نهضتُ أقرع سني ندماً، متمنياً أن يؤوب أمسي وأُحسن أفعالي لئلا تخلد بشاعتي في ذاكرتها، وسرعان ما نويت التكفير عن ذنبي بالندم. لا تنذهل سيادتكم، على هذا النحو أكون معها، حالماً وطامحاً إلى تقنين زلاتي وتكريس فضائلي. قرأت عن مساكين يفنون أعمارهم بحثاً عن أشخاص يكملونهم، حظي العظيم ناب بي وأنا يافع إلى ياسمين، إلى ملجأ أخلع به قناعي وتتعرى به ذاتي، هي فتاة حسناء ومفكرة حصيفة تمسك بناصية علاقتنا وتحلّق بها إلى بقعة سامية..
مما حثني على تناول يدها ولثمها، فيما استقامتْ وألصقتْ جسدها بي وعانقتني هامسة في أذني بتعابير لذيذة قشعرت بدني، ثم استأذنتْ وتتبعتها ببصري وهي تمشي الخيزلي. ورجعت هنيهة بالشاي، وقضيت معها ما يقارب الساعة نشكل مستقبلنا الزاهي.
داعب النوم جفوني سيادتكم، سأتابع غداً.
***
ذاكرتي مشوشة والأحداث من هنا ملتبسة، وربما منفصمة عن الواقع، ولكنني صادق على كل حال، واسمح سيادتكم أن أسرد ما حصل:
فارقت خطيبتي العزيزة وقدت سيارتي إلى المنزل وأنا أتبصر بالعمل المكلف به من السكرتير، وغمني أن إتمامه صعب لأنني نعست، وهكذا هممت أمارس عادة تسليني كثيراً، وهي التأمل بما جرى بيني وبين ياسمين. استدعيت مبسمها الفتان، وعينيها المليحتين، ورونق قدميها الحمراوتين، وقوامها الميّاس، ووجنتيها الصافيتين.. وبعد دقائق كنت قد غصت في حواراتنا، وأقاويلها حولي.. استمرأت هذه الممارسة الخلابة، بوصفها شفاء نفسانياً وترياقاً روحانياً يجعلاني متماسكاً.
-أنوّه بأن هذا الجزء كذبته ملامح الأطباء، وتضاحكوا عليه وهم في الرواق، إنما سيادتكم ما أقوله هو الحقيقة المحضة، على العموم.. في خضم استرجاعي المشاهد البديعة أُصبت بعلة! غدوت في لمح البصر غير قادر على مسك مقود السيارة، كما توهمت أن الزجاج مندى وأن أنفاسي تتسارع، وعلى الفور توقفت في محاذاة رصيف، وقررت التفكير مجدداً بياسمين فمرجح لي أن أهدأ وأثوب إلى رشدي.. وانكببت أراقب ما مررنا به من المكالمة انتهاءً إلى اجتماعنا، فككت كلماتها ونقبت عن معانيها، وانبثقت لي مشاكلنا القديمة وأساليبها آنذاك.. ولا أدري لماذا فكرت بتعامل السكرتير معي..
لم أتوقع أن يتفاقم ارتباكي، وزاد سوء حالتي ضجيج السيارات وهي تسير بجانبي، علاوة على ذلك عبرت سيارتان أفزعتني أبواقها، ثم رشح جسدي وانتفضتُ.. واجتاحتني غرابة لم أعهدها، يا له من وجع زلزلني.. وأحسست أنني لا أعرف من أنا، واضطربت..
أدرت المحرك ووطأت دواسة البنزين، حاولت أن ألعب لعبة الأمنيات، عساي أن أكون سوراً يطوّق أرضاً خاوية، أو شاحنة مهجورة، أو ركاماً من تراب تذروه الرياح.. وفي لحظة، خيل إلي أنني أطفو منسلاً خارج السيارة، رمقت نفسي من الزجاج الأمامي وأنا أجلس في المقعد، ولاحظت تهوري في القيادة، أوشكت على الجنون.. السيارة انحرفت عن الطريق، ماذا أفعل؟ رحت أفتح باب السيارة لأستوقفني.. ولكنه موصد.. وباءت مساعي بالفشل.
أظلمت الدنيا في عيني وانفصل إدراكي عن محيطي، وبعدئذ رأيت كابوساً كنت فيه مستلقياً على الأرض، وبينما الرعب يشيع فيني إذ يمضي شخصان باتجاهي، وبدا لي أن وجهاهما قاتمين، وينمان عن شر مطلق، رغبت بالنفوذ بجلدي وَجلاً من هيئتهما الدميمتين وهالتهما المرعبتين الطاردة لكل ما هو إنساني، وتفاجأت أنني متصلب ومهما بذلت ما أزال في مكاني، قهقها وهما فاتحا فاهيهما القذرين والمقززين مغتبطين من عجزي، وهبَّا بطعني ريثما برزت أحشائي، نهبا مكنوناتي، واختلسا ماهيتي، واغتصبا جوهري، عبث بي الملعونان وأنا أنحب وأنشد الرحمة متضرعاً إليهما.
***
أنهي التقرير سيادتك امتثالاً إلى أمركم في شرح مسببات اقتحامي متجر التموينات، وأقسم لكم أنني غبتُ عن الوعي، وما أوردته لكم هو ما عايشته رغم أنني أصغيت إلى الأطباء وهم يتهامسون عن سلامة مؤشرات بدني الحيوية وتحليلاتي الطبية. أخيراً.. ألتمس منكم السماح بإخراجي من المشفى إذا استقرت صحتي وتعافى حوضي.
ملحوظة: سيادتكم.. طمئنوني عن الأناس الذين كانوا يتسوقون في المتجر.