تظل علاقة الإنسان بالترفيه والألعاب علاقة فطرية ومتأصلة تمتد عبر التاريخ، وتعكس الطبيعة الاجتماعية للإنسان ورغبته الدائمة في التفاعل والتواصل مع الآخرين. فمنذ العصور القديمة، استخدم الإنسان الألعاب باعتبارها وسيلة للتعبير والتعلم والتواصل على حد سواء، بدءا من الألعاب التقليدية البسيطة إلى المسابقات الرياضية المعقدة التي تعزز الروح الجماعية والمنافسة الشريفة. فاللعبة، باعتبارها ظاهرة بشرية جماعية، لا توفر المتعة فحسب، بل تبرز المنافسة وتولد الألفة وتعزز الروابط بين الأفراد والمجتمعات. ومع تطور التكنولوجيا وظهور الحواسيب، انتقلت هذه الظاهرة إلى بعد جديد، حيث قام العالم ألكساندر دوغلاس في الخمسينات الميلادية الماضية بتطوير لعبة OXO، معطيا بذلك الإشارة الأولى لولادة الألعاب الإلكترونية. وقد مثلت هذه اللعبة البسيطة، التي كانت تجسيدا للعبة TicTacToe على الحاسوب، نقطة تحول في تاريخ التفاعل بين الإنسان والآلة، حيث بدأ الأفراد يتفاعلون مع الأجهزة بطرق جديدة ومبتكرة. ومع مرور الوقت، شهدنا تطورات هائلة في مجال الألعاب الإلكترونية، سواء من حيث التقنيات المستخدمة أو التجارب التي توفرها للمستخدمين. سمات البيئة الجديدة للألعاب الإلكترونية في العصر الراهن، الذي يمكن وصفه بعصر الإعلام والاتصال الإنساني، يبرز سؤال محوري، حول كيفية تكون البيئة الرقمية الحديثة للألعاب، ومدى ارتباطها بالتطورات التي طالت تطبيقات الإعلام والاتصال. وقبل القفز لإجابة سريعة ومباشرة، لهذا السؤال الحيوي، ينبغي أن نقر أولا بأن الألعاب الإلكترونية ورياضاتها لم تحظ بالاهتمام الكافي في دراسات الإعلام والاتصال، أو حتى في اعتبارها إحدى الوسائل الإعلامية الرئيسة اليوم، على الرغم من تأثيرها الواسع وانتشارها العالمي. لذلك، من المهم دوما إيضاح مدى اندماج هذه الألعاب في البيئة الرقمية، ومدى قدرتها على أن تكون أحد العناصر الأهم في تشكيل البيئة الإعلامية الراهنة والمستقبلية بكل تأكيد. فمتوسط أعمار من يلعبون في العالم اليوم وصل إلى 34 سنة، مما يشير إلى أن الألعاب لم تعد مقتصرة على فئة عمرية محددة بالأطفال كما كان الأمر سابقا، بل أصبحت جزءا من ثقافة المجتمع ككل. ووصلت مردودات الألعاب اليوم إلى 300 مليار دولار عالميا. وحتى نضع هذا الرقم في منظوره المنطقي، فهذا يعني أن الألعاب الإلكترونية باعتبارها سوق، تخطت سوق أفلام هوليوود بعشرة أضعاف، مما يعكس حجم الصناعة وتأثيرها الاقتصادي. ويعود هذا التحول لمعطيات عدة، منها تحسن البنية التحتية الاتصالية للدول، وانتشار الهواتف الذكية التي جعلت الألعاب متاحة للجميع في أي وقت ومكان، وتقدم تقنيات تطوير الرسوميات والبرمجة، التي وفرت تجارب أكثر واقعية وتفاعلية. بالإضافة إلى ذلك، ساهمت المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي في تعزيز انتشار الألعاب وجعلها جزءا من الثقافة الشعبية. غير أنه مما لا شك فيه، أن هذا التحول في البيئة الرقمية الحديثة يضعنا أمام وسيلة اتصالية اندمجت في المجتمعات وتفوقت بقدرتها التفاعلية عن الوسائل الإعلامية الأخرى، مما يستوجب دراسة أعمق لتأثيراتها على المستويات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. التفاعلية.. المكون الرئيس للألعاب الإلكترونية نشأت الألعاب الإلكترونية على مكون التفاعلية، وهو المكون الرئيس الذي يميزها، باعتبارها وسيلة، عن نظيراتها من الوسائل الإعلامية الأخرى. فعنصر التفاعلية بين القائم بالاتصال والجمهور أحدث علاقة بين الطرفين ذات معطيات تأثيرية على مستوياتها المعرفية والسلوكية والعاطفية. وهكذا، حول هذا التفاعل الألعاب من مجرد أدوات ترفيهية إلى منصات تواصل اجتماعي، حيث يتواصل اللاعبون ويتفاعلون ويتبادلون الخبرات. وبفضل التطورات التقنية الجديدة، انتقلت الألعاب من وظيفتها الترفيهية البحتة إلى تقديم مجتمعات افتراضية يتعاون بها الأفراد ويتنافسون ويكونون صداقات وعلاقات اجتماعية مختلفة. مما جعل الألعاب الإلكترونية اليوم، أكبر منصات التواصل الاجتماعي الرقمية من حيث التفاعل والوقت المستغرق. الأسباب وراء مشاهدة محتوى اللعب تتعدد الأسباب التي تدفع الأفراد إلى مشاهدة المحتوى المرتبط بالألعاب الإلكترونية. فقد يكون ذلك بهدف التعلم والتعرف على إستراتيجيات جديدة، أو للتشويق والاستعداد للألعاب القادمة، أو لجاذبية وشخصية من يقدم المحتوى عبر القنوات المرئية. ومع ذلك، يعد من أبرز الأسباب التي تجعل الأفراد يشاهدون الألعاب الإلكترونية بدلا من لعبها هو رغبتهم في مشاهدة من هم أفضل منهم في تلك الألعاب، حيث يمتلك اللاعبون المحترفون قدرات مهارية قوية وتمكنا من اللعبة ودرجة تنافس عالية، مما يجعل مشاهدتهم تجربة ممتعة ومثيرة. وبالتالي، هناك أفراد في البيئة الرقمية الحديثة، التي تحوي منصات مرئية مختلفة كموقع يوتيوب YouTube وتويتش Twitch، استطاعوا أن يمتلكوا نسب مشاهدة كبيرة جدا، وكانت البذرة الأولى لولادة الرياضات الإلكترونية بشكلها الحديث. فالرياضات الإلكترونية ليست إلا انعكاسا مباشرا للهوية الاجتماعية في العالم الرقمي، حيث يجتمع اللاعبون والمشاهدون من مختلف أنحاء العالم لمتابعة منافسات مثيرة ومشوقة. إن عنصر الجذب للرياضات التقليدية يكمن في قدرة الفرد على التمييز بين مستويات الأداء المختلفة بين اللاعبين، ومن منهم يمتلك مهارات استثنائية. لذلك كان من السهل أن تنتشر الرياضات التقليدية، لسهولة فهم ما يميزها من اللعب العادي. وفي البيئة الرقمية الجديدة وانتشار الألعاب ومن يلعب، أصبح هناك أيضا قدرة من الجمهور الكبير على تمييز من هو استثنائي في تلك الألعاب، مما جعل هؤلاء اللاعبين أبطالا في بيئاتهم الافتراضية أيضا. من الألعاب الإلكترونية إلى الرياضات الإلكترونية ما سبق يشير، بشكل عميق، إلى انتشار ونمو الرياضات الإلكترونية في السنوات الماضية، في مستويات المشاهدة، وفي حجم الاستثمار للمجال ذاته. ولعل من أقوى الألعاب في بيئة الرياضات الإلكترونية لعبتي ليج أوف ليجندز League Of Legends ودوتا Dota 2 لتاريخهما في المجال وبنائهما لمجتمعات ضخمة، استطاعتا من خلالها أن تنشئا الأساس للرياضات الإلكترونية، التي أتاحت لهما مردودات وافرة، شجعت شركات تطوير الألعاب الإلكترونية الأخرى للدخول في مجال الرياضات الإلكترونية. وقد تعددت اليوم الألعاب في مجال الرياضات الإلكترونية، كما تعددت أيضا الفئات التي تلعبها، فهناك ألعاب تشتهر ولها جمهور في دول عن دول أخرى وبلغات مختلفة، مما جعل من المجال مجالا تنافسيا على مستوى العالم. ففي كأس العالم للرياضات الإلكترونية المقام في المملكة العربية السعودية، وهو الأول من نوعه على مستوى العالم، يتضح هذا التنوع للألعاب. فمن خلال الأسابيع الثمانية التي أقيم فيها الحدث، كان لكل أسبوع منها 3 ألعاب يتم التنافس عليها من قبل أندية رياضات إلكترونية. ونظرا لشعبية هذه الألعاب وجماهيرها المتنوعة حول العالم، شهدت الرياض أكثر من مليون زائر للحدث في أول 4 أسابيع، من دول عديدة مثل الصين، والولايات المتحدة، وكوريا الجنوبية، واليابان. ويعكس ذلك، التنوع والمكانة المتصاعدة للرياضات الإلكترونية باعتبارها ظاهرة عالمية تجمع بين الثقافات، وتعزز التواصل بين المجتمعات المختلفة. فالرياضات الإلكترونية أصبحت منصة للتبادل الثقافي والتعرف على الآخرين، حيث يتنافس اللاعبون ويتفاعلون ويتبادلون الخبرات، مما يساهم في بناء جسور التواصل بين الشعوب. مستقبل سوق الألعاب والأسئلة الصعبة تكثر التساؤلات عند النظر لمستقبل سوق الألعاب الإلكترونية، والمتوقع أن يصل إلى 800 مليار دولار بحلول عام 2030، مما يعكس النمو السريع لهذه الصناعة. ومع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، والتقنيات المرئية كالواقع الافتراضي والمعزز، نستطيع أن نقول إننا ما زلنا في الخطوات الأولى لهذا المجال. فإن كان لعنصر التفاعل هذا التأثير الكبير على مستويات التعرض للمحتوى، فما هو التأثير الممكن عندما تدمج الألعاب مع التقنيات الغامرة؟ وتضفي نمطا تفاعليا أقوى مما مضى؟ وما هو التأثير المتوقع على الهوية الثقافية والاجتماعية في بيئة رقمية مبنية من تقنيات غامرة وبقيادة ذكاء اصطناعي؟ وما المفاهيم والركائز التي سيتعرض لها جيل المستقبل؟ وهل ستكون هذه التقنيات وسيلة لتعزيز التواصل والتفاهم بين الثقافات، أم أنها قد تؤدي إلى زيادة العزلة والانفصال عن الواقع الحقيقي؟ وما دورنا الحالي في مواجهة هذه القوى الخفية؟ هل نحن مستعدون لفهم وتوجيه هذه التحولات بما يخدم المجتمعات ويعزز القيم الإيجابية؟ أم أننا سنكتفي بدور المتفرج دون التأثير في مجريات الأمور؟ إن التحديات التي تفرضها هذه التطورات تستوجب منا التفكير العميق والعمل المشترك لضمان أن يكون المستقبل الرقمي متوافقا مع تطلعاتنا وقيمنا.