تعاني (صاحبة الجلالة) اللغة العربية من التهميش والإقصاء في عقول أطفالنا وعقولنا وبيوتنا ومكاتبنا، وأجهزتنا وملابسنا، وشوارعنا وأسواقنا وإعلامنا، وتجارتنا وإدارتنا ومؤتمراتنا، وسياساتنا وخططنا ومبادراتنا وثقافتنا وقراراتنا، في الوقت الذي تحتل فيه اللغات الأجنبية أماكن ومكانة اللغة العربية في كل شيء في حياتنا. ومع هذا يبقى الأمل كبيراً في أن تحظى اللغة العربية بنظرة من أصحاب القرار وصنّاعه والمسؤولين، لأهميتها في المحافظة على الوحدة الوطنية وإعادة إنتاج المجتمع والأجيال القادمة، وربطها بقيمها وثقافتها وأوطانها، وتعزيز السيادة والاستقلال والمنافسة الدولية والشراكة مع الأمم والشعوب المختلفة، ومراعاة الأمن الثقافي واللغوي للدول والمجتمعات العربية.
ونذكر بأن اللغة العربية ليست مسؤولية المختصين وحدهم كما يتصور الكثيرون، ولكنها أولاً، مسؤولية المسؤولين أصحاب الإرادة في الدول العربية لارتباط اللغة بجميع شؤون الحياة التي يملكون فيها الحل والعقد واتخاذ القرارات المصيرية، وثانياً مسؤولية المواطن العربي في كل دولة.
ويهمنا هنا أن نذكّر بأهمية مكانة اللغة العربية الكونية والعالمية التي حظيت بها مقارنة بغيرها من اللغات، لأنها خليط من عدة لغات لا يزال بعضها يستخدم في بعض القبائل حتى يومنا هذا في جزيرة العرب، مثل الحميرية والمهرية، وقد ارتبط تاريخها وتطورها بأوّل بيتٍ وُضع للنّاس للعبادة، والذي يعود تأسيسه إلى بداية وجود الإنسان على الأرض. ونتيجة للموقع الجغرافيّ الذي يوجد فيه بيت الله الحرام (الكعبة) بين جبال مكّة ووسط أوديتها؛ فقد تعرّض للتّصدّع والهدم أكثر من مرّة، بسبب كثرة السّيول، ثمّ أعيد بناؤه مرات ومرّات. وقد شرّف الله تعالى إبراهيم وولده إسماعيل، عليهما السّلام، حين عهد إليهما أن يطهّرا البيت من الشِّرك والرّيب، وأن يبنياه خالصاً لله، معقِلاً للطّائفين والعاكفين والرُّكّع السّجود، ثمّ يؤذِّن في النّاس بالحجّ إليه، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيّامٍ معلومات، فجاء النّاس من كلّ فجٍّ عميقٍ، بلغاتٍ وأجناسٍ وأعراقٍ مختلفة، ومن ممالكَ وإماراتٍ وبلدانٍ كثيرة، يحجّون ويتاجرون، حتى انصهرت اللغات واندمج بعضها ببعض، مكوِّنة اللغة العربيّة الفصيحة التي نالت من القدسيّة والتّكريم ما لم تنله لغة أخرى عبر التّاريخ، فوحّدت النّاس، وآخت بينهم، وعرّبت ألسنتهم حتّى صاروا يتنافسون في تعلّمها، ويسمّون أنفسهم عرباً نسبة إليها، لبيانها وفصاحتها وقوتها وإقبال الناس عليها والإبداع بها. ولهذا تعد اللغة العربية لغة غير عرقية لأنها خليط من لغات مختلفة تشكلت عبر آلاف السنين، وارتبطت بالكعبة التي كان الناس يحجون إليها بعد أن أذن فيهم إبراهيم عليه السلام بالحج.
لقد ظهر الشّعراء المؤبَّدون في التّاريخ العربيّ والإنسانيّ، الذين نهضوا باللغة إلى أرقى المستويات التّعبيريّة، فكانت القصائد المميَّزة تكتب بماء الذّهب وتعلّق على أستار الكعبة، بوصفها وثائقَ لغويّةً وتاريخيّةً مهمّةً، تؤكِّد عمق الإحساس بقيمة الأدب، والشِّعر بوجهٍ خاصّ، في ذلك العصر البعيد، ومكانة الشّاعر بوصفه حارساً للّغة ومجدِّداً في أنماطها وأساليبها التّعبيريّة. وهذا أقدم وسام وأقدس تكريم في تاريخ اللغات - يا ليت قومي يعلمون فيطلقون أقلامهم في ميادينِ العربيّة الواسعةِ الرَّحبة. وأصبحت الأسر تتنافس في تعليم أبنائها وبناتها اللغة العربيّة، وتحفّظهم الشّعر، وتسعى إلى أن يصبح أبناؤها وبناتها شعراء، كي يذيعَ صيتهم ويشتهروا بين النّاس، وينالوا المجد والخلود بهذه اللغة. وقد أصبحت الأسواق منصّات للمبارزة الشّعريّة بين الشّعراء، حتى تنوّعت أغراض الشِّعر وتعدّدت بحوره، فتحول الشِّعر العربيّ إلى مؤسّسة فكريّة وحركة ثقافيّة نهضت بالقبائل المجاورة لمكّة، وبالحجّاج الذين يؤمّون البيت الحرام.
ولقد حقدت الكثير من الأمم على مكة، بسبب شهرة الكعبة ورفعة مكانتها وتحولها إلى مركز جذب كوني، فجاء أصحاب الفيل، يقودهم أبرهة الحبشيّ، بجيشٍ عظيمٍ يقصدون هدم الكعبة. ولم يتمكّن أهل مكّة وقتذاك من الدّفاع عنها لقلّة عَتادهم وإمكاناتهم، وكانت الكلمة المشهورة لجدّ الرّسول محمّد، صلّى الله عليه وسلّم: (أنا ربُ إِبِلي، وللبيتِ ربٌّ يَحميه). فهزم اللهُ أبرهةَ، وتدخّلت القدرة الرّبّانيّة لدحره.
في ذلك العام وُلد محمّد بن عبدالله، من نسل إبراهيم عليه السّلام، واستمرّت الحركة الفكريّة والثقافيّة واللغويّة في الانتشار والتّوسّع، فوصلت اللغة إلى أرقى مستويات الفصاحة والبلاغة والبيان والإعجاز. وأصبح لدى النّاس الفهم السّليم والمُكنة اللغويّة العالية، وتطوّرت مَلَكة الحفظ، ليكونَ العَرَبُ مؤهَّلين وقادرين على استيعاب وحفظ الرّسالة الجديدة والحدث العظيم الذي سوف يكون في مكّة، إذ أنزل الله القرآن الكريم على محمّد رسول الله بلسانٍ عربيٍّ مبين. فكان القرآنُ آخرَ كتابٍ مقدّسٍ، وكانَ محمّدٌ آخر رسولٍ من هذه البقعة المبارَكة. فأذهل الشّعراء والأدباء والحكماء من العرب حتّى نسبوه إلى الشِّعر، وحاول البعض تقليده فخابت مساعيه. وقد تحدّاهم الله بأن يأتوا بحديث مثله، ثمّ أن يأتوا بعشر سورٍ مثله مُفتريات، ثمّ أن يأتوا بسورةٍ مثله، ثمّ أن يأتوا بسورةٍ من مثلِهِ، فعجزوا، وكان قد قطع عليهم المحاولةَ سَلَفاً حين أنزلَ، قبل ذلك كلِّهِ، قولَهُ تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) (الإسراء - 88).
لهذا، كانت معجزاته وخوارقه تفوق أخيلتهم وتصوّراتهم وإمكاناتهم اللغويّة، لأنّه كلام الله أوّلاً، ولأنّه للعبادة والصّلاة والشّرع وتنظيم الحياة ثانياً. وقد أرسل الله محمّداً إلى النّاس كافّة، قال تعالى: (وما أرْسلْناك إلّا كافّةً لّلنّاس بشيراً ونذيراً ولكنّ أكْثر النّاس لا يعْلمُون) (سبأ - 28). ولهذا هيّأ الله النّاس لغويًّا لفهم كلامه وشرعه، وما كان الله لينزّل كتابه على أناس مشتّتين لغويًّا وغير قادرين على استيعاب وحفظ ما فيه من تشريعاتٍ وتوجيهاتٍ ومواعظ وأحكام. وقد ميّز الله العربيّة عن غيرها من اللغات بالقرآن، فقال تعالى: (ولو جعلنه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربيٌ) (فصلت - 44)، وقال سبحانه: (ولو نزلناه على بعض الأعجمين، فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين) (الشعراء - 198). هنا فقط، تلتقي الأرض بالسّماء منذ بنيت الكعبة في أوّل وجود للبشريّة، وحتّى لحظة تحوّلها إلى قبلة للكون يتّجه إليها ملايين النّاس للصّلاة والعبادة والدّعاء في كلّ لحظة.
لقد اختار الله العربية لتكون لغة كلامه (القرآن) فقال تعالى: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) (يوسف - 2). وبما أن الرسالة من رب العالمين، والرسول آخر الأنبياء والمرسلين مرسل للعالمين؛ قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين) (الأنبياء:107). فالرسالة كونية، والرسول كوني، ولغة الرسالة لكل الكون، وإذا كان من يتبع رسول الله من العالمين هم قوم الرسول صلى الله عليه وسلم، واللسان الذي ينطق به لكل العالمين كما قال تعالى: (فَإِنَّمَا يَسَّرْناهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً) (مريم - 97)، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (إبراهيم - 4)؛ من هنا أتت كونية اللغة العربية وعالميتها، لأنها تحمل كلام الله ورسالته إلى خلقه حتى (استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً) (الجن- 1). وتحدث بها الناس بمختلف ألسنتهم وأعراقهم، وكتبوا بحروفها لغاتهم. وكانت لغة الحكام ورجال الدولة والأدباء والعلماء، الذين أوصلوها إلى الصين والأندلس. كذلك ساهم الكثير من المجتمعات الإسلامية في دراسة وتطوير النحو والقواعد وكيفية تجويد اللغة وإتقانها خدمة للقرآن الكريم، الذي يعد الدستور والمرجع القانوني للحكم والقضاء والإدارة والتجارة والعلم والترجمة والمعاملات في الدولة الإسلامية على مر العصور. وهناك الكثير من التخصصات والعلوم المرتبطة باللغة العربية التي تطورت بها، ولا يزال استخدامها حتى يومنا هذا، مثل الجبر والطب والفلك والهندسة.. وغيرها.
وبعد سقوط العباسيين والأمويين وتولي العثمانيين للخلافة الإسلامية، تقرر بأن تكون التركية لغة السياسة والإدارة، والعربية لغة الدين، فتراجعت العربية خمسة قرون. وضعف العثمانيون ليبدأ الغزو الأجنبي للدول العربية والإسلامية فحارب العربية، وسن السياسات اللغوية الاستعمارية والإقصائية، وحول مجتمعات كثيرة بالقوة إلى لغته. ثم استقلت الدول العربية من الاستعمار معتمدة على اللغة العربية في توحيد المجتمعات وفي تعزيز الوحدة الوطنية والسيادة والاستقلال الوطني، كما تأسست جامعة الدول العربية (22 مارس 1945) متخذة من اللغة العربية مرجعاً أساسياً في تأسيسها، بهدف تعزيز الهوية الوطنية والعربية والتكامل والتضامن والتعاون والتواصل بين الدول العربية ومجتمعاتها. وعلى المستوى العالمي، طالب مجلس جامعة الدول العربية - في دورته رقم (3071) في سبتمبر عام 1973 - الأمم المتحدة بأن تكون العربية من بين لغات الأمم المتحدة الست، فصدرت الموافقة الأممية في 18 ديسمبر 1973، لتتحول العربية إلى لغة عالمية معتمدة في المنظمات والهيئات الدولية، كما ناشد المجلس الدولي للغة العربية في مؤتمره الأول الذي عقد في بيروت في مارس 2012م القادة والمسؤولين العرب والمنظمات العربية والدولية لتأسيس اليوم العالمي للغة العربية. وأصبح للغة العربية يوم عالمي (18 ديسمبر) يحتفل بها فيه. ومع هذا، تواجه اللغة العربية الكثير من التحديات المحلية على أيدي أبنائها، إضافة إلى الحروب الخارجية ضدها. والواجب أن تكون هناك سياسات وطنية وعربية جديدة وفق خطط وتصورات علمية وتشريعية وقانونية واضحة تضمن للعربية مكانتها ومكانها، وتلزم الجميع، كل حسب مسؤوليته، بتعلمها وتعليمها واستخدامها بشكل سليم، وفق قوانين وتشريعات ملزمة ومرتبطة بعقوبات وغرامات لكل من يخالفها أو يسعى لتهميش اللغة العربية أو الانتقاص منها أو إقصائها، لأن في ذلك استهدافاً للوحدة الوطنية والهوية العربية والتضامن والتكامل العربي. لهذا فإننا نؤكد أولوية فهم اللغة العربية وأهميتها على مستوى الأفراد والأسر والمجتمعات والدول العربية. ونذكر بأنها لغة كونية وعالمية وغير عرقية، تشكلت من لغات قديمة كثيرة عبر آلاف السنين، وساهم في تطوير علومها الكثيرون من أعراق وأجناس ولغات مختلفة. كما نحث المؤسسات الحكومية على معالجة وضع اللغة العربية بصفتها لغة وطنية خصوصاً على مستوى الأسرة، والتعليم بجميع مراحله، والإدارة، والحكم، والإعلام، والثقافة، والتجارة، والعمل، والعدل ومؤسساته المختلفة. وندعو الجميع للاستفادة من قانون اللغة العربية الصادر عن المجلس الدولي للغة العربية والمعتمد من البرلمان العربي واتحاد المحامين العرب.
وحتى تكون الرؤية واضحة، فإنه من الضرورة مقارنة اللغة العربية بلغات أقل منها مكانة وتاريخاً لنعرف كيف تحافظ بعض الدول الصغيرة والحديثة على لغاتها وهويتها ووحدتها الوطنية، وتنافس بها في جميع التخصصات والمهن وطنياً ودولياً. (ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) (إبراهيم - 25).