هناك مقالات تنشر، وبحوث تجرى، ومؤتمرات علمية تعقد في مجال تاريخ العلوم الطبيعية والتقانة في حضارة الإسلام. ويتم تحقيق مخطوطات في هذا المجال، باختلاف مستويات التحقيق. وهذا الموضوع جدير بأن يهتم به المتخصصون في العلوم والتقانة، لأن الحديث عن تاريخ علم ما يستلزم الإلمام بالعلم الذي نبحث عن تاريخه.
فهل الاهتمام بتاريخ العلوم والتقانة (وتحقيق المخطوطات في هذا المجال) له تطبيقات عملية في حياتنا المعاصرة؟ بمعنى آخر: هل له فائدة لجيل اليوم والأجيال القادمة؟ أم هو من باب الاشتغال بـ(علم لا ينفع)؟ وبالتالي مضيعة للوقت؟ ستتضح الإجابة عن الأسئلة السابقة من خلال الإجابة عن هذه الأسئلة التي يدور حولها محور هذه المقالة:
1- ماذا نستفيد من دراسة التراث العلمي في حياتنا المعاصرة؟
2 - هل منجزات العرب والمسلمين وابتكاراتهم هي أشياء قديمة لم يعد لها تطبيق اليوم، أم أن كثيراً منها ظل مطبقاً حتى في عصرنا الحديث؟
3 - إذا كان الاهتمام بالتراث العلمي مفيداً، فما هي الوسائل الناجحة لتعريف الأجيال الناشئة به؟
فوائد دراسة التراث العلمي
للإجابة عن السؤال الأول نذكر الفوائد التالية لدراسة التراث العلمي:
أولاً: تبسيط العلوم: عندما تبدأ المقررات المدرسية باستعراض تطور العلم يكون ذلك بهدف تبسيطه للطالب. والمطلوب في تدريس العلوم ليس إيجاد طالب يتلقى المعلومات من أجل اجتياز الامتحان فقط، وإنما المطلوب هو تخريج أكفاء يجيدون التفكير في حلول المشكلات التي تعترضهم بالطرق المنهجية. وفي سبيل ذلك نذكر لهم تجارب العلماء في قالب قصصي شائق، ليأخذوا من تلك التجارب الدروس التي تسلحهم بسلاح البحث العلمي. وعندما يدرس الطالب شيئاً من تاريخ العلم فإنه يستنتج القواعد التي تطور بها ذلك العلم. والأجدر عند ذكر تطور العلم، أن نوضح كل مساهمة علمية في مكانها، فيذكر أسماء علماء الحضارة الإسلامية ممن ساهموا في هذا التطور. وهنا يأتي دور الباحثين في التراث العلمي والتقاني لإبراز دور العرب والمسلمين والكشف عن مزيد من إنجازاتهم، مع التحقيق المنهجي للمخطوطات العلمية.
ثانياً: تحفيز الهمم: من أهم العوائق التي تعترض طريق الإبداع والإنتاجية في المجالات التقانية (مثل الصناعات والطب وغيرهما) هو الشعور بعدم الثقة، فإذا تغلب هذا الشعور نجده يشل تفكير من نتوسم فيهم بناء الأوطان. وبدا جدياً لرواد تاريخ العلوم في العالم العربي أن الجامعات العربية مسؤولة بالدرجة الأولى عن معالجة هذا الموقف. وأنه لا بد لها أن تهتم كل الاهتمام بدراسة تاريخ العلم والتكنولوجيا في الحضارة العربية، (من أجل بعث الثقة بالنفوس وحفزها على مزيد من الدراسة والتصميم نحو بناء المجتمع العربي المتقدم علمياً وتكنولوجياً). فإذا أردنا من الطالب أن يبدع فعلينا أن نشجعه ونحفزه إلى ذلك. وفرق بين أن يقال للطالب: إن الغرب له الفضل في كل شيء، وأن الإبداع مركـز عندهم، وبين أن يقال له إن الغرب ما كان سينهض لولا أنه أخذ من أجدادك المبدعين.
ثالثاً: ازدياد حصيلتنا من المصطلحات العلمية: فكثير مما يجري على ألسنتنا اليوم من كلمات حديثة مثل: سيارة، وباخرة، ومكيف، هي نتيجة استنباط مفردات عربية لأشياء حديثة. ولكن يبقى علينا استنباط المزيد من المسميات للمخترعات التي تخرج علينا كل يوم. وتراثنا العلمي واللغوي ثري بهذه الكلمات. ولذلك فإن دراسته من الواجبات علينا.
وقد ترجم المختصون في سورية (التي تدرّس كل العلوم بالعربية منذ نشأة الجامعات بها) كتب الهندسة من اللغات الأجنبية. ولكنهم استخدموا مصطلحات بعيدة عما ورد في كتب التراث الهندسية. ولكن بعد تحقيق عدد من تلك الكتب التراثية وجد أن المصطلحات فيها تطابق ما يستعمله الصناع والحرفيون من عامة الشعب. فكانت نتيجة توليد المصطلحات في غرف مغلقة بالمجامع والجامعات وجود لغتين عربيتين كلماتهما مختلفة: لغة للمهندسين، ولغة للفنيين أو الحرفيين! فوجب علينا استخلاص المصطلحات من التراث العلمي العربي وتوحيدها على المستويين الأفقي والعمودي، أي بشمول كل الطبقات المهنية وكل الأقطار العربية. ومؤتمرات المجامع اللغوية العربية قدمت التوصيات العديدة لاعتماد التراث العلمي كمصدر لاستنباط المصطلحات، قبل توليد مصطلحات جديدة.
رابعاً: تواصل البحوث التطبيقية في العلوم الحديثة مع التراث: أي أن كتب التراث العلمي لا تزال تمدنا بالمفيد والجديد في العلوم الطبيعية والتقانة. وأضرب لذلك بعض الأمثلة:
1 - في عام 1980م بدأ بعض مختصي الآثار بمحاولة العثور على منجم الرضراض الذي يتحدث عنه الهمداني في كتابه (الجوهرتين). وكان الكتاب قد صار معروفاً للمجتمع العلمي بعد أن صدر مترجماً إلى الألمانية سنة 1968م. فأعيد اكتشاف ذلك المنجم بالاعتماد على كتاب الهمداني. فهذه دلالة واضحة على أحد مجالات الاستفادة من كتب التراث في واقعنا المعاصر.
2 - اقتبس الألمان قبيل الحرب العالمية الثانية أساليب استعملها الأندلسيون في مدينة المعدن Almaden لتخليص معدن خالص نقي استخدموه في صنع الطائرات. وكتب باحثون عرب وغربيون عن الفولاذ الدمشقي بأنه أكثر أنواع الفولاذ صلابة. وهناك دراسات أخرى عن الفولاذ الدمشقي نكتفي بذكرها في الحواشي.
3 - اعتمد المهندسون المعماريون المهتمون بالعمارة الإسلامية على كتب التراث والمعالم المعمارية الأثرية للخروج بتصاميم من وحي البيئة العربية الإسلامية، تسر الذوق الجمالي لمتذوقي هذا النوع من الفن المعماري. وهناك كتب تراثية مخصصة لفقه البناء والعمارة تفيد في توجيه المهندس إلى تصاميم تتوافق مع القيم الشرعية والاجتماعية عند المسلمين.
والكتب الحديثة المؤلفة حول هذا الموضوع عديدة، وكذلك المؤتمرات والندوات التي عقدت حوله، والكليات والمعاهد التي تدرّسه، والدوريات التي تتخصص فيه. نذكر في هذا المقام أن أحد المعارض التي أقيمت عام 1995 بإسبانيا كان معرضاً عنوانه (العمارة في الأندلس: دروس للقرن 21). وهو يعرض الثروة المعمارية التي يمكن الاستفادة منها للخروج بتصاميم مبتكرة ومفيدة.
4 - طب الأعشاب الذي برع فيه علماء السلف وألَّفوا فيه العديد من الكتب المتعمقة لا يزال يمارس في أكثر الدول. بل له معاهد وكليات تدرّسه في دول مثل الهند والصين وباكستان. وفي الدول العربية تجري حوله الأبحاث في عدد من مراكز البحوث. ويدعو بعض الباحثين الغربيين إلى إحياء تدريس الطب العربي وإنشاء اللوائح والأنظمة الضابطة للأطباء والصيادلة الممارسين له، لأن في الغرب أصلاً عودة إلى أنواع من الطب المعتمد على المواد الطبيعية.
5 - توقع الزلازل ودراسة منطقة ما من حيث قابليتها للزلزال وكثرة الهزات بها يعتمدان على سجل إحصائي للزلازل في المنطقة. وهذا السجل نأخذه من كتب التراث العلمية والتاريخية. وقد وصلت إلينا بعض الكتب التراثية المخصصة للزلازل.
6 - الكتب التراثية المؤلفة في الزراعة والنبات ما تزال تمدنا بالكثير مما نستفيده حول البيئة الصحراوية بمنطقتنا وكيفية العناية بالنباتات فيها. فمن المعلوم أن علوم الزراعة في الغرب تطبق غالباً على بيئة مختلفة عن بيئتنا. ويبقى على المختصين في علوم الزراعة والنباتات أن يدرسوا أنواع النباتات بمناطقنا وكيفية نموها والعناية بها وببيئتها. وقد استفادت البحوث التطبيقية في الزراعة والبيئة كثيراً من كتب التراث وما يتصل بها. وألفت البحوث والكتب العديدة في هذا المجال.
7 - يقوم العديد من الباحثين بتطبيق ما ورد في كتب التراث العلمي على ما تعلمه من علوم الحاسوب (الكمبيوتر أو الأردناتور)، فيخرج بأبحاث في غاية الطرافة والدقة والنفاسة. ومن ذلك أن أكثر من باحث استعمل الصيغ الرياضية التي وردت في كتاب (مفتاح الحساب) لجمشيد الكاشي حول تصميم القبة والمقرنص والأزج والطاق، وأدخل تلك الصيغ في الحاسوب لاستخراج تصاميم حديثة في العمارة الإسلامية ومن ذلك أيضاً قيام أكثر من باحث باستخراج أوقات الصلوات والمناسبات الإسلامية المهمة من الصيغ الرياضية التي اقتبسها من كتب التراث في الميقات وغيرها، ثم استعمل معها بعض المعلومات الحديثة وأدخل كل ذلك في الحاسوب ليخرج بجداول حديثة لكل المدن في كل أيام السنة الشمسية.
خامساً: الاستفادة من مناهج البحث العلمي عند السلف: كتب التراث العلمية تدلنا على بعض المناهج والمسالك التي انتهجها علماء السلف. ومنها مناهج صالحة للتحسين والتطوير، ثم الاستفادة منها والاستثمار، فتستحق كل الاستحقاق أن نرجع إليها وندرسها. فنأخذ منها ما يستحق إحياءه من مناهج الأقدمين، ونترك ما لا يصلح.
سادساً: تدريب النشء على الرياضة الذهنية: فمثلاً نستطيع تكليف الطالب بناء جهاز ورد وصفه في كتاب تراثي، فيكون في ذلك فائدة له، وإحياء للتراث، وإضافة قيمة إلى المتاحف العلمية.
سابعاً: اللحاق بركب الباحثين الغربيين في هذا المضمار: فالغرب لا يزال متقدماً في مجال تراثنا نحن! وعدد المعاهد المتخصصة عندهم في هذا المجال والأقسام المتخصصة فيه كبير مقارنة بما عندنا. وكذلك عدد الدوريات المتخصصة في هذا الموضوع. وقد ذكر كاتب هذه الأسطر (في تغريدات وتدوينات) كثيراً من المعارض التي تقام عن تراثنا العلمي في الغرب.
التطبيقات الحديثة لمبتكرات قديمة
أما بالنسبة للسؤال الثاني حول تطبيق ابتكارات السلف في العصر الحديث، فإن الباحثين المعاصرين من عرب وغربيين يخرجون علينا بين الحين والآخر باكتشاف سبق جديد للحضارة العربية الإسلامية، أكثرها مما نسب إلى غربيين، وكان لها أكبر الفضل في قيام النهضة العلمية في أوروبا، ولها تطبيقات حديثة في حياتنا المعاصرة.
منها على سبيل المثال: استعمال البخار لتوليد الطاقة الميكانيكية، والتنظيف بالبخار، والرسم الهندسي، وتطوير النظريات الفلكية في مجال حركة الأجرام السماوية، والآلات الفلكية المبتكرة، وآلات السلامة الصناعية، وكتب الوقاية من تلوث البيئة، والنظارات الطبية. وقد فصّل كاتب هذه الأسطر شرح هذه الإنجازات وتطبيقاتها المعاصرة في بحوث أخرى.
التوصيات
بقي لدينا السؤال الثالث: إذا كان الاهتمام بالتراث العلمي مفيداً، فما هي الوسائل الناجحة لتعريف الأجيال الناشئة به؟ هل من وسائل لنشر الوعي بهذا التراث العلمي؟ المقترحات والتوصيات التالية نرجو أن تكون خطوات في هذا السبيل لم تم تطبيقها:
1 - تدريس تاريخ العلوم في الثانويات والجامعات، ووضع مناهج syllabus أو إرشادات guidelines توضح المواضيع التي ينبغي التركيز عليها. وهذا قد لا يتم إلا برفع توصية إلى مجلس وزراء التعليم العرب عن طريق الجامعة العربية.
2 - إنشاء المزيد من المتاحف العلمية والمعارض التي تبسّط العلوم وتحبّبها إلى الناشئة، وتحتوي على مراحل تطور العلوم، بحيث تلقي الضوء على إنجازات الحضارة العربية الإسلامية، وتضعها في سياق تطور كل علم. والأهم هو إتاحة زيارتها للجمهور، وقيام الرحلات المدرسية المنظمة إليها. وهذه توصية ينبغي أن ترفع إلى وزراء السياحة العرب.
3 - تشجيع القطاع الخاص على تصنيع الدمى والقصص المصورة وألعاب التسلية للأطفال من وحي التراث العلمي. فكما أن الغرب يصدر لنا شخصيات من بيئته مثل الباربي أو البوكيمون وغيرها فيمكن استيحاء تراثنا نحن، مع تشجيع القطاع الخاص وضمان تسهيل تسويق منتجاته دون عقبات جمركية أو غيرها. وهذه توصية يمكن رفعها إلى اتحاد غرف التجارة العربية وإلى مجلس وزراء التجارة العرب.
4 - تشجيع القطاع الخاص وأجهزة التلفزيون الحكومية أيضاً على إنتاج برامج شيقة وجذابة حول التراث العلمي العربي. وقد شارك مؤلف هذه المقالة في أكثر من برنامج أذيع في الفضائيات العربية من هذا النوع، ومنها برنامج (شمس العرب) الذي أنتجه في الأساس التلفزيون السوري، ولكنه أذيع من محطات عدة.
5 - رفع توصية إلى القائمين على المهرجانات الثقافية في العالم العربي بإدراج جناح أو معرض حول التراث العلمي، يتم فيه العرض بطريقة شيقة جذابة، ويستعان فيه بالخبراء في العرض الفني والدعائي، إضافة إلى المختصين في تاريخ العلوم. ولا يخفى أن هذه المهرجانات تجتذب مئات الألوف من الزوار كل عام.
6 - وضع قواعد ومناهج لتحقيق مخطوطات التراث العلمي، ونشرها مع شروح مختصرة تعتمد المصطلحات المعاصرة.