مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

الاهتمام بالمخطوط العربي مجهودات جامعة الخرطوم مثالاً

إنَّ أبرز ما يميز الأمة العربية أنها تمتلك تراثاً ضارب الجذور في الأصالة والعراقة، وأنها شديدة الصلة بهذا التراث التليد، تستلهم منه الحكمة، وتستند عليه في سيرها قُدُماً نحو الرقي والتطور والمواكبة، وعماد هذا التراث ما خلَّفه أسلاف هذه الأمة من مخطوطات أغلب الظن أنه لم يتسنَّ لأحد إحصاؤها عدداً، ولا تقدير قيمتها وما تنطوي عليه من المعارف والعلوم والفوائد، وقد انتقل الكثير من هذه المخطوطات إلى أيدي المستشرقين وعلماء الغرب ومراكزه ومعاهده، نسبةً لظروف قاسية مرَّت بها الأمة العربية والإسلامية، وقد كان في انتقال هذه المخطوطات إلى أيدي الغربيين خيرٌ كثيرٌ لها بحسب رأي بعض المختصين، وإن كان التشكيك في نوايا المستشرقين قد تسرَّب إلى نفوس الكثيرين أيضاً.

ومهما يكن من أمرٍ فإن للمستشرقين دورَهم العظيمَ في إخراج هذه المخطوطات للوجود عبر تحقيقها ونشرها وإرساء قواعد التحقيق ومنهجه، وقد سار أرباب التحقيق في البلاد العربية سيرهم وانتهجوا نهجهم، غير أن الجدل لا يزال قائماً بين المختصين حول أولية هذا العلم، فمن راءٍ أن المستشرقين سبقوا إليه علماء العرب، ومن ذاهبٍ إلى عكس ذلك، وليس هذا مقام الحديث عن هذا الجدل. ولا يخفى على أحد اهتمام البلاد العربية والإسلامية ببعث تراثها وإخراجه للبشرية في أفضل صورة، فما من بلد عربي إلا وقد ضرب بسهم في هذا المجال، فبرزت مجهودات الأفراد والمراكز والمؤسسات الأكاديمية، وفي مقدمتها الجامعات، وذلك من واقع مسؤوليتها نحو العلم والمعرفة.
ففي السودان ظهرت اهتمامات متعاظمة بتحقيق النصوص المخطوطة، كان معظمها مبنياً على أسس علمية راسخة، أرستها بعض الجامعات السودانية، وفي طليعتها جامعة الخرطوم، حيث التفت قسمُ اللغة العربية بكلية التربية إلى أهمية تحقيق المخطوطات والعناية بها منذ أمدٍ بعيدٍ يرجع إلى العام 1987م، إذ تمَّ تضمين مقرر إلزامي يدرس لطلاب القسم على مستوى البكالوريوس والدراسات العليا تحت مسمى (تحقيق النصوص)، واستمرَّ تدريس هذا المقرر إلى يومنا هذا، ويعد ذلك استجابة لتوصية المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم والفنون بإدخال هذا العلم ضمن المقررات الدراسية، فكان قسم اللغة العربية في مقدمة الجهات التي استجابت لتلك التوصية، وكان ثمرة هذه الاستجابة أن تمَّ تحقيق عدد وافر من المخطوطات تحت عناية القسم ورعايته.
كان الدكتور محمد مهدي أحمد (يرحمه الله) الأستاذ المشارك بقسم اللغة العربية - جامعة الخرطوم رائد هذه التجربة بلا منازع، ففي مطلع الثمانينات قدم رسالته لنيل درجة الدكتوراه بجامعة (سانت أندروز) بأستكلندا، وكانت في تحقيق جزء من شرح ابن جني لديوان المتنبي المسمى بالفَسْر، وقد حقق الجزءَ الأكبرَ منه معتمداً على تسع نسخ مخطوطة، تحصل عليها من جهات مختلفة، وقابل بينها ليخرج هذا الجزء من الكتاب في أقرب صورة أرادها له مؤلفه، ولما عاد للعمل بجامعة الخرطوم عزم على مواصلة التحقيق فأشرف على رسالة دكتوراه كانت امتداداً لتحقيقه للفَسْر، ثم أشرف على عدد وافر من رسائل الماجستير والدكتوراه، جاءت كلها في تحقيق مخطوطات تتصل بالتخصص في اللغة العربية.
هذا وقد سار القسم تحت قيادة الدكتور محمد مهدي مهتماً بفنِّ التحقيق الذي يعد خدمة عظيمة للمعرفة وللتراث العربي، تمثل ذلك في تشجيع الطلاب المُقْدِمين على الدراسة التخصصية في اللغة العربية وتوجيههم ومساعدتهم على تحقيق مخطوطاتٍ من التراث العربي والإسلامي الذي لم يكن ليرى النور لولا هذه المجهودات الجبارة، وكانت حصيلة هذا التشجيع أن تم تحقيق أكثر من عشر مخطوطات تحت إشراف القسم، رغم شح الإمكانات وصعوبة الوصول إلى المخطوطات، وقد قدَّم أحدُ أعضاء هيئة التدريس بالقسم رسالته لنيل درجة الدكتوراه في تحقيق ودراسة كتاب (فرائد القلائد في مختصر شرح الشواهد للإمام الحافظ العيني) في العام 2009م، وكان تحقيقاً رصيناً شهدت له اللجنة الممتحنة بالتجويد والإتقان. وفي العام 2016م أجاز مجلسُ القسم مقترحاً بإنشاء مركزٍ لتحقيق النصوص والعناية بالتراث، مواصلة لجهوده في هذا المجال، كذلك لا يزال التواصلُ مكثَّفاً مع الجهات التي تمتلك المخطوطات، فهناك مكتبة السودان التابعة لجامعة الخرطوم، ودار الوثائق القومية بالسودان، وبعض المكتبات الخاصة، وهي كلها تعجُّ بالقيِّم من المخطوطات التي لم تجد حظَّها من التحقيق والنشر.
وجدير بالإشارة أن هنالك بعض المُعقيات التي قد تبطئُ من جني ثمار هذا الجهد المتواصل، وهي تتمثل في صعوبة النشر في السودان، نظراً لظروفه المتقلبة في الآونة الأخيرة. والنشرُ خطوةٌ مهمَّةٌ بها تكتمل الفائدة من التحقيق، فكثير من المخطوطات التي تم تحقيقها ظلت تنتظر نصيبها من الطباعة والنشر والتوزيع لتعمَّ فائدتها، ولم يُنشر منها إلا القليل.
من جانب آخر فإن ثقافةً غيرَ محمودةٍ تمنع كثيراً من مالكي المخطوطات السودانية من تمكين المحققين من الحصول عليها، وبخاصة تلك المخطوطات التي تمتلكها أُسَرُ المؤلفين، ففي غالب الأمر لا يكون لهم الاستعداد لتحقيقها، ولا يمكنون المختصين المهيئين للقيام بذلك من عملية التحقيق.
وخلاصة القول إن قسم اللغة العربية بكلية التربية - جامعة الخرطوم يُعَدُّ -من بين نظرائه- صاحب السبق في تحقيق التراث والعناية بالمخطوطات، وكلُّ من جاء بعده إنما هو مُقتفٍ لأثره في هذا الفنِّ. وما يميِّز أعمال القسم في التحقيق أنها تقوم على الأسس العلمية والقواعد الراسخة في اختيار النسخ التي يعتمد عليها في التحقيق، وتحديد النسخة الأمِّ، والمقابلة بين هذه المخطوطات، وما يتبع ذلك من وصفها وجمعها وتحرير مادتها، وما تقتضيه آلة التحقيق من صناعة الهوامش والفهارس والملحقات.

ذو صلة