ما أعظم أن تكون صاحب رسالة في الحياة، تسعى لأن تترك أثراً من خلال صناعة محتوى إيجابي يضيف للآخرين قيمة وهدفاً. وكم جميلٍ أن تكون قيمة مضافة في المجتمع ويشار إليك بالبنان والإعجاب من خلال ما تقدم من إنجازات طموحة تعود بالنفع والفائدة على المحيطين، بلا شك وراء كل إنجاز هناك الدوافع التي تحرك السلوكيات وتوجهها نحو تحقيق الأهداف، وهي مسؤولة بالدرجة الأولى عن تنشيط السلوكيات أو الحد منها، وها نحن نعيش اليوم وسط عالم يعج بالأفراد المؤثرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة والتي باتت متاحة للجميع، ونرى الأفراد في منصات متنوعة، سواء أكانت منصات ذات محتوى جمالي أم تثقيفي أو فني أو ديني.. وغيرها من المجالات الحياتية.
رائعة هي الأضواء عندما تسلط على ما يستحق من رسائل، وتظهر الممارسات التي تحمل معنى قادراً على إيصال الفكرة بوضوح. رائعة هي الشهرة المتزنة التي تكسب الفرد المزيد من الثقة والتقدير وتجعله يمضي لتحقيق المزيد من التطلعات، ولكن الأضواء بحد ذاتها سلاح ذو حدين، فقد تعزز الجانب الإيجابي في حياة الأفراد المؤثرين بنجاح، وقد تعمل في اتجاه معاكس، خصوصاً عندما تتجرد من مهمتها الحقيقية، وتتحول إلى ضوضاء، من خلال وقوع الأفراد أسرى للشهرة الفارغة، فتتحول الأهداف إلى ممارسة بصورة هوسية تتجرد من المضمون إلى أن يتلاشى الهدف السامي المنشود في المحتويات لنستشعر موضوع الهوس بوضوح في سلوكيات الأفراد المؤثرين.
وفي ظل ما تفرضه الساحة الإعلامية والاجتماعية من أطروحات ومحتويات متنوعة والتي باتت تغزو مشاهدتنا اليومية؛ أصبح لا يمكن تغافل الأفراد أو الجماعات التي تعاني من هوس الشهرة، فلم يعد الموضوع مقتصراً على أفراد معينين كأن ينتموا إلى مرحلة عمرية أو من مجتمع معين أو بثقافة محددة، وذلك لأن الفضاء الإعلامي رحب وواسع ويتسع للجميع، ويفتح أبوابه لكل فئات المجتمع، ويهيئ لهم الفرصة للدخول في عالم الشهرة ومجاراة ما يحدث بلا قيود، ما أسهل أن تفتح حساباً عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتصنع محتوى وتجمع أفراداً، وقد يكونون وهميين يتم شراؤهم وتعيش دور المشهور والمهم الذي أصبح لا يتنفس إلا تحت الأضواء.
إننا أمام معضلة ثقافية باتت واقعاً، وبخاصة مع تحول الأفراد لمهووسين بالشهرة، من خلال السعي لنيلها بكل الطرق التي قد تتنافى أحياناً مع القيم، ولكن لذة الشهرة والانغماس في الهوس يفرضان بعض الممارسات غير السوية والتي يدركها المتابع العادي، ولا نحتاج فيها لمحللين نفسيين للإدلاء بإصابة الأفراد بهوس الشهرة، ويعرف الهوس في صورته البسيطة والمتعارف عليها على أنه المبالغة التي تتجلى في التعبير والسعادة وإظهار السلوكيات بصورة غير اعتيادية، حيث يتزامن الهوس مع انفعال المزاج وحالة من الإثارة المستمرة، وهذا ما يتم ملاحظته على بعض الأفراد الذين تتغير سلوكياتهم بصورة لافتة بعد فترة من البدء في تفعيل رسائلهم الحياتية، حيث تصبح أهداف رسائلهم منصبة على الدخول في عالم الشهرة أكثر من التركيز على المضمون القيم، ويصبح التركيز على الأضواء هو الأهم، فقد تتهافت الخطوات نحو التمسك بالشهرة والسعي لنيلها بكل الحيل من أجل نيل استحقاق مادي عالٍ، قد يفرض على الفرد أحياناً الخضوع التدريجي للتنازلات التي تجعل صاحب المحتوى مهووس بالشهرة التي غالباً ما تكون شهرة فارغة.
وفي الوقت ذاته لا بد من أن نراعي موضوع الدوافع وراء الشهرة التي غالباً ما تكون لأسباب مادية أو لردم الفجوة في الذات التي يعيشها البعض نتيجة الشعور بعقدة الدونية، واتخاذ الشهرة سلوكاً تعويضياً مبالغاً لملء عقد النقص، كما يرافق هذه الشهرة ظهور أمراض اجتماعية لدى فئة تتسابق على الشهرة، ما بين الغيرة والحقد والحسد وإثارة الإشاعات وتبني السلوك العدائي ضد الآخرين أو الاستعلاء من خلال تعظيم الأنا، فقد يتفشى هوس الشهرة بصورة جلية من أجل لفت الأنظار وتفريغ العقد النفسية والاجتماعية التي هي حصيلة ذات مشوهة في الداخل، قد تجد من بوابة الشهرة طريقاً للتنفيس بصورة سيئة دون أي أهداف تطرح أو رسالة ذات مضمون واقعي، وذلك يتنافى مع مفهوم الشهرة الحقيقية التي لا بد أن ترتبط بصناعة المجد الشخصي للفرد، فالإنسان بطبيعته النفسية يميل إلى التقدير وحب الاهتمام، وذلك وفقاً لما جاء في هرم (ماسلو) للاحتياجات، وكذلك أوضحت الدراسات النفسية علاقة الإنسان بالناس من خلال أهمية الحصول على الشعبية بين الآخرين، وذلك عندما ركز الدكتور (ميتش برينشتاين) أحد علماء النفس البارزين في علم النفس الشعبي على مفهومين أساسيين، وهما: التفضيل الاجتماعي والسمعة الاجتماعية، وجميعها مفاهيم ودراسات عميقة، إذا ما تم ترجمة سطورها، فهي تؤكد على ارتباط الإنسان بالشعبية والشهرة الطبيعية التي تؤدي للنجاح المهني والنجاح في العلاقات الاجتماعية في ضوء محدادت لا تقود إلى الهاوية أو للوقوع في فخ هوس الشهرة المرضية الفارغة.
إن الفرص اليوم باتت متاحة وميسرة للجميع في اعتلاء مناصات الشهرة، ولكن شتان بين الشهرة الحقيقية التي تحقق النجاح، والشهرة الفارغة التي تصنع الأمراض النفسية، وتبث سمومها لتطال الجميع وتجعل الأفراد أسرى يعانون من هوس الشهرة.
إن تفشي ظاهرة هوس الشهرة لدى الأفراد شأنه أن يؤجج من ظهور الاضطرابات النفسية لدى هذه الفئة، حيث يرى علم النفس بأن الهوس بصورته العلمية (شكل من أشكال الأمراض العقلية الرئيسة، ويختلف من مريضٍ إلى آخر في الشدة والدرجة والأعراض التي تتضارب في وتيرتها ما بين النشاط الزائد والمرح وعدم التركيز على عملٍ ما، والتركيز المبالغ فيه والمطالبة بفعل أشياء مبالغٍ فيها). كما أن وقوع الفرد تحت طائلة اضطراب الهوس شأنه أن يجره إلى الإصابة باضطرابات نفسية أخرى كاضطراب ثنائي القطب الذي كان يعرف تحت مسمى الاكتئاب الهوسي.
إن مخاطر هوس الشهرة وانتشار عدد من الأفراد المهووسين بتحقيق الأهداف الزائفة؛ شأنه أن يؤثر على تحقيق المجتمع لأهدافه، ومنها انتظار أفراد أسوياء يعملون بروح الإخلاص من أجل خدمة المجتمع في ضوء علاقات اجتماعية سوية وتواصل إيجابي. إن التخلي عن الأهداف مقابل هوس الشهرة الفارغة شأنه أن يساهم في ظهور نماذج مرضية يكون لها تأثير بالغ، بدءاً من الأسرة، وذلك لأن البعض قد يتخذ النماذج المشهورة قدوة له، خصوصاً بالنسبة للأبناء في مرحلة المراهقة، وهي مرحلة حساسة يكون فيها الأبناء سريعي التأثر بالعالم الافتراضي وبالأشخاص المؤثرين، ولكن عدم اتضاح مسار الفرد أو ترويجه للشهرة الفارغة بدافع الهوس ممكن أن يشكل أزمة في الأسرة، وبخاصة إذا تبنى الابن المراهق أفكار المشهور وأصر على تقليده، في الوقت الذي أصبح من الصعب على أولياء الأمور تقييد المشاهدات أو منع التأثر بما يشاهد. وهنا مشكلات جديدة تعيشها الأسر في الواقع المعاش بسبب تأثير المشاهير، الأمر الذي يفرض على الوالدين التعامل بحذر واتباع أساليب توعوية للأبناء بصورة مستمرة، ووقايتهم من الوقوع في هوس الشهرة والتأثر بالمهووسين.
إن الهوس بكافة أشكاله أقرب لأن يزيل الصور الحقيقية ويرسم صوراً مزيفة، تبدأ من تركيز المهووسين على أهداف غير واقعية والعمل على نشرها. الشهرة ليست سيئة، بل تتطلب التوازن من قبل الأفراد، وتحتاج إلى الثبات بعد كل تذبذب لكي يحقق الأفراد أهدافهم بعيداً عن هوس الشهرة الفارغة.
الشهرة هي مسؤولية مشتركة تتطلب الوعي الحقيقي بماهيتها، وتتطلب أن يرافقها برنامج وقائي مستمر، يبدأ من الأسرة والمجتمع ومنصات الإعلام لكي لا نرفع حصيلة الهوس والمهووسين بالشهرة.