إلى أي مدى ما يزال ينظر إلى الشعر الشعبي على أنه يأتي في مرتبة تالية للشعر الفصيح؟
اللغة مثل الحب جميعها كائنات حية، تحزن وتفرح، تبكي وتضحك، تنتعش، تكبر وتشيخ، وقد تموت.
نعلم أن لغتنا العربية محفوظة بحفظ القرآن الكريم لها، والذي مع تواتر نزوله انتعشت لغتنا انتعاشاً باهراً، وكبرت وسادت. ومع بلوغ الحضارة العربية أوج عظمتها في عصر صدر الإسلام وما تلاه من عصور، والتي اتفق المؤرخون من العرب وغيرهم على تسميتها بـ(العصر الذهبي للإسلام)؛ بلغت لغتنا شأواً بعيداً من الانتشار. هذا الأمر إيجابي، ولكن له ما يتصل به من السلبيات التي قد تنال من هوية المجتمع، والقاعدة التاريخية تقول: (إن الحضارات تتسع لتتغير)، نعم اتسعت الحضارة العربية، وانطوت تحت لوائها شعوب كثيرة من شرق العالم وغربه، هنا بدأت اللغة تكتسب شكلاً جديداً، وروحاً جديدة، وتفرعت منها لهجات عديدة، وعليه تأثر الشعر بهذه اللهجات، إلى أن وصلنا لما نتداوله الآن بكثرة، وهو موضوع حديثنا (الشعر النبطي). إذاً هو بالنشأة يأتي في مرتبة تالية للشعر الفصيح، فالثاني نتاج من الأول، وليس العكس. هذا بالمعايير التاريخية، وعندما نتناول المعايير الأدبية المجردة من حسابات الجمال نجد أيضاً أن الشعر الفصيح يأخذ المرتبة الأولى، وذلك أنه محكوم مضبوط بضوابط اللغة ومحدداتها، وما يضبط يبقى وما لا يضبط يتلاشى. ولكن أليس الشعر بمجمله روح وهيئة؟ سنجد الجمال في الشعر أياً كانت لغته أو لهجته؛ إذا كتب كما يجب.
ويجدر بنا أن نذكر أن بعض شعراء الفصحى قد ساهموا بشكل مباشر في تشكيل النظرة الفوقية لدى المجتمع العربي، فهم لم يعاملوه ككائن جديد له روحه الجميلة وشكله الفاتن، وإنما حاربوه لأنه مستحدث، كما حارب الإنسان كل ما هو جديد. اليوم بدأت هذه النظرة الاستعلائية اللامنطقية بالتلاشي، ورأينا كثيراً من فطاحل الشعر الفصيح يشيدون بالشعر الشعبي، بل ويكتبونه، منهم الشاعر (سلطان الضيط)، فهو شاعر أنيق يحترف الفصحى، حاز مؤخراً على لقب أمير الشعراء، وهو في الوقت ذاته من المبدعين في كتابة الشعر النبطي ومن عشاقه. ونرى كذلك الشاعر الكبير (جاسم الصحيح) الذي لم يخفِ إعجابه بالشعر الشعبي، وصرح بشكل لطيف ومنصف عن ذلك بقوله: إحدى المساحات التي أبحث فيها عن الشعر هي الشعر الشعبي.
عليه نقول إن الشعر الفصيح يكتسب عظمته في الأساس من عظمة اللغة، ولكن ذلك لا يعطيه الأفضلية إذا لم يُكتب بروح جميلة وهيئة براقة، وقد يتفوق عليه الشعر الشعبي إذا كتب بالطريقة المناسبة التي تجعله أدباً رفيعاً ليس بالمعايير الأدبية المجردة، وإنما بالمعايير الأدبية والجمالية.
القوة الداخلية في الشعر الشعبي
كسوداني، يستمع لأغاني مصطفى سيد أحمد، ويقرأ قصائد (عمر الدوش)؛ لا أحب أن أعبر عن نفسي بالفصحى أكثر من حبي للتعبير بلهجتي المحكية، كذلك السعودي الذي يستمع لطلال مداح، والإماراتي الذي يطرب لميحد حمد، والمصري الذي يغرق مع غرق عبدالحليم؛ جميعهم يحبون أن يعبروا عن مشاعرهم ومكنوناتهم بلهجتهم المحكية. نعم اللهجة المحكية هي كلمة السر التي جعلت الشعر الشعبي أقرب لوجدان شعوبنا في هذا الزمن. وأعتقد أن هناك سبباً لا يمكن إهماله، أدى بطبيعة الحال لظهور البون الشاسع بين الشعوب العربية والشعر الفصيح؛ وهو شعراء الفصيح أنفسهم، الذين سلكوا طرقاً لا تؤدي لقلوب المجتمعات ولا إلى عقولها، وهذا من أكبر الأخطاء التي يقع فيها الشاعر، البعد الوجداني عن المجتمع.
مراحل الشعر الشعبي
يقال إن أول من قال الشعر الشعبي النبطي هم الهلاليون، وفي مقدمة ابن خلدون المكتوبة قبل سبعمئة عام تقريباً، ذكر الشعر النبطي بشكله الذي نراه عليه اليوم، بدأ الشعر النبطي قوياً وذلك لاتصاله المباشر بالشعر الفصيح الذي كان يناصفه حكم الساحة الأدبية في ذلك الوقت. تلاشت الحضارة، تبددت الثقافة، وضعف الشعر، إلى أن انتعش في فترة ليست بالبعيدة، وهي الفترة التي تزامنت مع ظهور الدولة السعودية الأولى، حيث عاد العلم ليقود المجتمعات إلى النور، وبدأ التدوين وانتعشت الثقافة واستقرت الحياة، ونفض الشعر غباره مرة أخرى. وفي عصرنا هذا يعيش الشعر النبطي أزهى عصوره على الإطلاق، لأسباب عديدة منها استقرار المجتمعات في الجزيرة العربية، وانتشار الحريات وحمايتها، والتمازج الثقافي بين شعوب المنطقة والعالم، والمؤسسات الثقافية والبرامج الأدبية التي عززت ثقافة الشعر النبطي، والتي يأتي على رأسها برنامج (شاعر المليون) الذي غير وجه الشعر النبطي إلى الأبد، غيّره للأجمل. وأعتقد أن للشعر النبطي الشعبي مستقبلاً باهراً مزدهراً، يرتبط بازدهار هذه المنطقة من العالم.
الشعر الشعبي وثورة الاتصالات
ذكرنا في معرض حديثنا أن اتساع الحضارة وتمازج الثقافات قد يضعف الهوية، ولكن نجد دولة مثل دولة الإمارات، تحتضن أكثر من 200 جنسية وأعداداً ضخمة من الأجانب، نسبة إلى عدد أقل بكثير من المواطنين؛ نجدها تحتفظ بهويتها، بل تعززها وتصدرها! وهذا أمر عجيب حقاً، ولافت للنظر. تتمشى في الإمارات فتجد أبياتاً من الشعر النبطي على جدران المنازل والمؤسسات، وعلى الملصقات في المواصلات العامة، يرجع الاحتفاظ بالهوية هنا لوعي القيادة، واستفادتها من دروس التاريخ القاضية بأن الهوية التي لا يحميها أهلها تذوب وتتلاشى. إذاً لم يضعف الشعر الشعبي، ولم ينصهر في الثقافات الأخرى انصهاراً يفقده هويته، بل استفاد من هذا التمازج، وأصبح أكثر وعياً وأناقة.
الشعر النبطي والتأثير إقليمياً
كنت أمارس عادتي اليومية بتصفح مواقع التواصل الاجتماعي قبل الخلود إلى النوم، مررت بمقطع فيديو لفتاة جميلة، تذكرت الساحرة الخرافية شهرزاد. الفتاة جميلة وفارسية، سأشاهد الفيديو:
شاهدت الفيديو!
سأعود معكم لصديقتي الفارسية..
قبل أشهر، رأينا الجمهور الإنجليزي لنادي نيوكاسل، وهم يرتدون الشماغ والثوب العربيين، مشهد خيالي أقرب إلى السريالية. مشهد سريالي آخر: احتفل ميسي بكأس العالم وهو يرتدي البشت!
لعل الثقافة تعتبر واحدة من الأشياء القليلة التي لا يمكن انتقالها بالتلقين، إنها قوة ناعمة تنتقل بالتأثير الإيجابي أو لا تنتقل. لا يخفى على أحد أن انتقال القرار العربي بين العواصم العربية على مر تاريخها من المدينة إلى دمشق إلى بغداد مروراً بالقاهرة إلى استقراره في الخليج في مدينة الرياض؛ هذه الانتقالات أدت إلى انتشار ثقافة أهل هذه المدن على مر العصور، والتاريخ يخبرنا أن الثقافة يشكلها من يصنع القرار، إذا استطاع أن يعي كيف يجعلها محبوبة لدى الغير لا مفروضة. الخليجيون اليوم يتعلمون ويعلّمون، يسافرون ويستضيفون، يستقبلون وينتجون، دولهم مستقرة ومنفتحة على الآخر، وهي دول تنموية بامتياز. أدت هذه العوامل إلى قدرتهم على نشر ثقافتهم إقليميّاً. هذا التأثير بدأ ضيقاً، أذكر أنني قرأت كتاباً بعنوان: شذرات من الموروث الثقافي الشعبي السوداني، للكاتب السوداني (فرح عيسى محمد)، وقد تخلله استشهاده ببعض أبيات الشعر النبطي لشعراء مثل عبدالله بن سبيل وابن عفيشة الهاجري.. ياللعجب! شعر نبطي في كتاب للموروث السوداني، هذا ما قلته في نفسي، ثم استدركت وحللت الأسباب، فوجدت أن استشهاد الكاتب بالشعر النبطي له عدة أوجه، منها أن الوجدان السوداني يغلب عليه الوجدان العربي، ومنها ما هو محور حديثنا، قدرة الشعر النبطي على تصدير نفسه للخارج، كجزء من ثقافة صاعدة مهيمنة.
تقوم دول الخليج اليوم برعاية الثقافة العربية بشكل غير مسبوق، تقيم المسارح والندوات، تؤسس الجمعيات، تحتضن المبدعين، كل هذه المقومات إضافة لعوامل الاستقرار وصنع القرار؛ أدت إلى تصدير كثير من أشكال الثقافة الخليجية إلى محيطها العربي وغير العربي. على سبيل المثال، ستجد كثيراً من الجمهور العربي يتداولون كلمات خليجية مثل: (صح لسانك) والتي لم تكن متداولة عربياً بشكل كبير، ولكنه تأثير صانع الثقافة والقرار.
عليه ينتشر الشعر النبطي إقليمياً بشكل واسع وسريع، إذ يعد أبرز وجوه هذه الثقافة الصاعدة المقبولة عربياً، والمؤثرة. ومع تزايد الزخم التقدمي في الرياض وأبو ظبي تحديداً وباقي مدن الخليج؛ سنشهد انتشاراً أكبر للثقافة الخليجية إقليماً وعالمياً، وسيكون الشعر النبطي من أهم أوجه هذه الثقافة المنتشرة.
بالعودة لصديقتي الفارسية الجميلة؛ كانت تلك الفتاة الرشيقة ترقص على أنغام (شيلة) سعودية مكتوبة بالشعر النبطي!