مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

قــرار

الدكتور ماهر مبتسماً للمريضة التي تجلس مقابلاً له في مكتبه، وبيده أوراق عدة يقلب فيها:
- مبروك.. نجحت عملية طفل الأنبوب.
بدهشة وسعادة بالغة تجيبه المرأة وهي مرتبكة:
- لا أصدق يا دكتور، والله لا أستطيع تصديق ذلك.. أخيراً بعد سبع سنوات من الانتظار سأصبح أماً؟
أجابها الدكتور ماهر:
- ألم أقل لك إنّ الله كريم؟
- يا الله يا دكتور، يا الله.. أخيراً سأ..
يقاطعها الطبيب مبتسماً وهو يكتب لها وصفة طبية:
- سأكتب لك بضع أدوية ونظاماً غذائياً يجب أن تتبعيه ويمنع منعاً باتاً الجهد..
يقدّم لها الوصفة قائلاً:
- تفضلي الوصفة، راجعيني بعد شهر وألف مبارك لك ولوالد الطفل..
تتناول منه الوصفة ضاحكة متمتمة بكلمات غير مفهومة، وتخرج من غرفة الطبيب إلى غرفة الانتظار التي يتواجد فيها مراجعون عدّة وهي تدعو له ومن ثم تخرج من العيادة وهي تحدث نفسها:
عاقراً كنتُ.. أفتش عن الفرح في داخلي، أحادث في خيالي رحم أمي التي لم ترثني إياه.. كم أتعبتني الأدوية التي تناولتها لأجل إرضاء زوجي وأهله.. كم كنتُ ألمس بيديّ دموعي التي تتهاطل كالمطر على مخدتي وأعدّها في انتظار الفرج.
كم استسلمتُ لقضاء الله وكم تمسكت به وكم دعوتُ له أن يا رب إني (مسني الضرّ وأنت أرحم الراحمين).
كان طوفان القهر يحاوطني وكنت أراوح مكاني في منتصفه.. زوجي على يساري ووالدته على يميني وإخوته ووالده من كل الجوانب.. وأنا أغرق في هذا الطوفان الذي كانت نظراتهم به تكاد تنتشل أحشائي مني من الخوف أن أخسر زوجي وحياتي وأبقى بنظرهم العاقر!
حاولت أن أقاوم الطوفان لكن دون وعي مني سرتُ في اتجاهه، كيف لا وأنا أحاول أن لا يُهدم منزلي الذي بنيت أساساته وسط هذا الطوفان فأين المفر؟!
كم صعدتُ في محطات الانتظار ونزلتُ في محطات اليأس وأنا أشعر بالنار تأكل أحشائي ورحمي، وأدعو الله في سرّ، يا نار كوني برداً وسلاماً..
كم استسلمتُ للبرد.. كم استسلمتُ للحر وأنا أقاوم وأقاوم هذا الطوفان البارد والحار كي أحافظ على زوجي.. زوجي الذي أرادت والدته أن تزوجه للمرة الثانية لكنه كان فقيراً معدماً، وحالما ابتسمت الدنيا في وجهه وأصبح معه المال الوفير الذي يستطيع الزواج به وإنجاب ابن يحمل اسمه كنتُ أنا من حمل به..
يا الله ما أوسع حكمتك..
كم أحببتُ أن أحمل نتائج التحليل وأرميها في وجه حماتي، لكن حالما فتحت لي الباب ودون وعي مني قلتُ لها ونظرة التحدي والإصرار في عيوني:
- أنا حامل.
في الجهة الثانية من غرفة الانتظار في عيادة الدكتور ماهر، كانت سوسن، في نهاية الثلاثينات من عمرها تقول لزوجها أنس بعينين تملؤهما الدموع:
- كلّما حملتُ بطفلٍ كنتَ تطلب مني إجهاضه، فعلى حسب رأيك لا مجال لتربيته في هذه الحرب اللعينة.. وها نحن أتينا إلى عيادة الطبيب من أجل إجراء عملية طفل الأنبوب بعد الحادث الذي تعرضتَ له ونتج عنه مشكلات الخصوبة لديك.. وها هي الحرب ما زالت مستمرة، لو استمرت الحرب أيضاً لمدة عشر سنين أخرى هل كنتَ ستبقينا دون طفل؟
بالقرب منهما، كان هناك زوجان في منتصف العشرين من عمرهما، الزوجة التي جاءت لتجهض ابنها، ألقت نظرة حزينة على زوجها الشاب الذي بدأت علامات القلق تسيطر على وجهه وهو يستمع إلى حوار سوسن مع زوجها..
أمسكت زوجته بيده ونظرت إليه نظرة كلّها رجاء، علّه يعدل عن قرار الإجهاض بعد سماعهما هذا الحوار، لكنّه كان غارقاً في التفكير..
تتابع سوسن حديثها:
- ماذا لو لم تجعلني أجهض طفلي الأول، أما كان عمره الآن عشر سنين؟
جفل الزوج العشريني حين سمع هذه العبارة، وانتبه إلى نظرة زوجته الحزينة في الوقت الذي تابعت سوسن حديثها:
- خذ قرارك الآن يا مازن، لا تورطني بطفل الأنبوب وحينما أحمل به تطلب مني إجهاضه!
كان مازن غارقاً في صمت عميق، شارد، واجم، مكفهر وسوسن تتحدث إليه بعصبية وحزن بليغين، يختفي صوتها شيئاً فشيئاً ولا يرى منها وهو غارق في شروده إلا حركات شفاهها وإيماءات عصبيتها فيهز برأسه موافقاً وكأنه يستمع بكل جوارحه إلى حديثها ويوافق عليه، لكنه يكاد يتفطر قلبه عليها وعلى حاله.. فهذه الحرب اللعينة حرمته طفله حتى قبل أن يأتي إلى هذه الدنيا..
مرات ومرات عديدة كانا سيفترقان، بسبب تشبثه برأيه بعدم الإنجاب وإصرارها على الطفل قبل أن تخضع لرأيه وتجهضه.
يضع يده على رأسه الذي بدأ يؤلمه بشدة وهو يتذكر عبارة زوجته:
(لو استمرت الحرب أيضاً لمدة عشر سنين أخرى هل كنتَ ستبقينا دون طفل)؟
كان يتساءل كيف شارك بهذه الحرب دون أن يطلق رصاصة واحدة وذلك بقتل أكثر من طفل له قبل أن يأتي إلى هذه الدنيا وكأن بلاده ينقصها الموت!
كاد ينفجر أن ينفجر وزوجته ما زالت تتحدث إليه بعصبية وهو لا ينصت إلا لضجيج الأطفال في رأسه..
هو يدرك في قرارة نفسه أنه ارتكب الكثير من الأخطاء في حياته لكن مثل خطأ قتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق لم يرتكب.. وكيف سيكون الخطأ هذا حينما يقتل أبناءه قبل رؤيتهم نور الحياة!
عبارة زوجته تعشش في دماغه ولا تريد الخروج منه:
(لو استمرت الحرب أيضاً لمدة عشر سنين أخرى هل كنتَ ستبقينا دون طفل)؟
كابوس عدم نجاح عملية طفل الأنبوب يطارده، وسيكون هو السبب إن لم تنجح، فامرأته أصبحت كبيرة في السن ولم تعد كما السابق، ورحمها ضعف من كثرة الحمل والإجهاض، وهو يعاني من مشكلات الخصوبة، وعبارة زوجته ما زالت تضرب في رأسه:
(لو استمرت الحرب أيضاً لمدة عشر سنين أخرى هل كنتَ ستبقينا دون طفل)؟
يا الله.. تولّى أمري فقد تبتُ إليك..
وماذا ستفعل توبتي اليوم بعد قتلي أبنائي جميعاً..
التقت نظراته بنظرات الزوج العشريني، وكلّ منهما غارق في هواجسه..
يصحوان من تلك الهواجس على صوت الطبيب منادياً:
- من المريضة التي كانت تريد أن تجري عملية إجهاض؟
فلا يتلقى أي رد..
فيكرر:
- من المريضة التي كانت تريد أن تجري عملية إجهاض؟
يقف الشاب العشريني وهو ينقّل نظره بين زوجي طفل الأنابيب.. تضرب رأسه عبارة سوسن:
(لو استمرت الحرب أيضاً لمدة عشر سنين أخرى هل كنتَ ستبقينا دون طفل)؟
يعود وينقّل نظره بين الزوجين والدكتور ماهر، وزوجته التي تضع يدها على بطنها ويجيب الدكتور قبل أن يمسك بيد زوجته ويخرجا معاً من العيادة:
- لا أحد دكتور.. لا أحد.

ذو صلة