| 1 | ابتسامة الزوجة
تزوج المهندس (عاصم) من (نادية) المبتسمة ابتسامة رضا وقناعة، فقد تعلمت من والدتها أن الابتسامة هي حصن المرأة من الهمّ والغمّ. والزوجان يحترم كل منهما الآخر ويقدره، وكان يجمعهما المحبة والصدق والمودة والتراحم. مرت الأيام سريعة، فالأيام السعيدة والجميلة تمر بسرعة البرق، وتصبح ذكريات محفورة في القلب، وكان لا ينقصهما غير طفل. بعد عام، قالت نادية لزوجها عاصم:
- أريد أن أذهب للطبيب.
احترم رغبة زوجته، ورد عليها وهو يطيب خاطرها:
- نعم.. يجب أن نذهب للطبيب.
وكان أمر وجود طفل له ينغص عليه حياته.. لكنه سلّم بأمر الله.
ذهب الزوجان إلى الطبيب مرات عديدة وفي أوقات منتظمة يحددها الطبيب، وظل الزوجان على هذه الحالة من الترقب والانتظار ما يقرب من عشر سنين، والأمل والرجاء هو كل ما يملكانه. في الزيارة الأخيرة للطبيب، قال لهما وهو ينظر إلى شيء غير وجههما، ويداه تنقر على المكتب: - لا يوجد سبب لعدم الإنجاب.. هذه إرادة الله.
أحسّت الزوجة (نادية) أن أملها قد بَعُدَ قليلاً.. رغم أنها قد أخذت بكل الأسباب، لحظات صمت بين الطبيب وبينهما. بعدها، بكت، وأدركت أنه لم يتبق لها غير وجه الله.. القادر، والرازق.
مرت الأيام ثقيلة على الزوجين، فالوحدة مؤلمة رغم مشاغل الحياة، فالزوج نسي أمر الطفل القادم قليلاً، وانشغل بعمله الذي يحبه، وجاهد بعزم صادق، وسرق من ساعات النهار الكثير بعد مواعيد العمل الرسمية حتى أصبحت المصلحة التي يعمل بها تعتمد عليه في إنجاز ما يصعب إنجازه، وبسرعة مدهشة. أما الزوجة (نادية) فقد اختفت من وجهها الابتسامة، وانزوت في شقتها الواسعة تخاطب طفلها الذي لم يأت حتى الآن.
لم تقفل ناديها بابها في وجه أي من النساء، وكانت النساء من الأقارب والجيران يحاولن التخفيف عنها، وكانت (نادية) لا تشارك في الحديث إلا قليلاً حينما يتحدثن عن الأطفال، وتقوم مسرعة إلى المطبخ، تشغل نفسها بواجب الضيافة. بعض النساء، أشرن عليها ببعض الوصفات وخرافات كثيرة، ويبررن هذه الأشياء التي يرفضها العقل والمنطق، ويقلن (الغاية تبرر الوسيلة) رفضت (نادية) كل هذه الوصفات بشكل قاطع، وتمسكت بالأمل، وتوسلت إلى الله بخشوع، ساعتها فقط، خصصت (نادية) غرفة لطفلها القادم: سرير، ودولاب، ومكتب صغير، وعرائس وألعاب كثيرة، ولونت الغرفة بألوان مفرحة، ولما نظرت للغرفة بعد اكتمالها، عادت إليها ابتسامتها، وظلّت بالساعات بالغرفة تناجي ربها حتى يعود زوجها من العمل.
| 2 | اسم المولود
أحسّت (نادية) بالبشارة، وعرفت علامات الحمل، وأخفت الخبر الجميل عن زوجها حتى تتأكد منه، ربما يكون حملاً كاذباً كما يقول الأطباء، فهي تخشى على زوجها من صدمة الحمل الكاذب، وتعرف رقة مشاعره، وقسوة ضياع الحلم من بين يديه، وانسحبت من الصالة إلى غرفة طفلها القادم، وظلّت ساعات أكثر بها، ودعت الله أن يتم عليها نعمة الأمومة، هذا الطفل سوف يعطيها فرصة أكبر للحياة، فلا يعقل أن يعيش الإنسان دون حلم جميل، ورسالة نبيلة يؤديها، وخاطبت ابنها القادم، وهي تتحسس بطنها (ما أقسى عذابي! أنت الفرحة والأمل والحلم والمستقبل يا بني). ودمعت دمعتين من الفرح، وصلّت ركعتين شكراً لربها الوهاب، ونامت مرتاحة هذا اليوم، وكان وجهها قد أشرق بابتسامة الرضا والقناعة مرة أخرى. مرت الشهور، وتأكدت من الحمل، وذهبت وحدها للطبيب الذي فرح، وأشار عليها بالراحة، وأعطاها بعض الفيتامينات اللازمة. لاحظ زوجها عليها الخمول والكسل، وراحة البال، وتلك الابتسامة الرائعة، وبعد أن تناول الطعام، سألها:
- لماذا تخفين هذا الخبر الجميل؟!
ردت عليه بلطف ومودة:
- أردت التأكد فقط، وخفت أن يكون حملاً كاذباً كما يقول الأطباء.
مسح المهندس (عاصم) دمعة من وجهه، وقال بخشوع وشكر:
- الحمد لله.. الحمد لله..
وابتسم بصفاء، وأشار عليها باختيار اسم للمولود القادم، فقالت:
- سأسميه شادي، فهو أغنيتي.
ردد الاسم، وهو يتغنى به:
- شادي.. ما أحلى هذا الاسم!
وترك زوجته، وصلى ركعتين.
توجعت (نادية) كثيراً فهي على وشك الولادة. أسرع زوجها (عاصم) واتصل بالطبيب، وأحضر سيارة وذهبا للطبيب الذي كان في استقبالهما.
ظلّت (نادية) بغرفة الولادة، مرّت الساعات ثقيلة على المهندس (عاصم). الساعة الأولى تحملها. أما الساعة الثانية، فأكلت منه أعصابه حتى أنه لم يستطع الوقوف أو السير، فجلس على الأرض يدعو الله، كان خائفاً على طفله وزوجته، تبدد القلق وقفز من جلسته لما سمع صراخ طفله.
اطمأن على زوجته وطفله، وأعطى الطبيب أجرته، وشكره، ومنح الممرضة مكافأة سخية، والعاملة الموجودة أيضاً. وكانت الساعة الثامنة صباحاً يوم الجمعة. تحسست (نادية) طفلها بحنان، ووجهها بحر من العرق، ونادت عليه:
- حبيبي يا شادي.. ابن بطني، وابن الانتظار والأمل.
ابتسم زوجها، وقال لها:
- سأسميه أحمد.
هزت (نادية) رأسها بالموافقة وهي تنظر إلى ابنها بمحبة صادقة، وقالت بصوت ضعيف وهي تشير إلى السماء:
- الأسماء أقدار على أصحابها. كله مكتوب، وخير الأسماء ما حُمّد، وعُبّد.
ابتسم لها، ودعا لابنه، وقال:
- اللهم اجعل له من اسمه نصيباً .
وقرأ على ابنه (أحمد) المعوذتين.
| 3 | عقيقة المولود
ذهب المهندس (عاصم) إلى سوق الماشية يوم الأربعاء، واشترى نعجتين. ويوم الخميس عصراً، ذبحهما أمام الدار، ووزع على المحتاجين والأقارب أكثر من ثلثي اللحم، وهو راض، وكانت الناس تدعو له وللمولود بالخير والصحة وطول العمر.
بعد المغرب من يوم الخميس، الَّتَم الأهل والأصدقاء والمعارف في بيت المهندس، وكانت الفرحة والود يفوقان الوصف، وكانت الزينة والأنوار على مدخل الدار مبهجة وجميلة، وجلس الرجال بغرفة، والنساء. قرأ الرجال أجزاء من القرآن الكريم، وحوقلوا، وبسملوا، وتمتموا بأدعية كثيرة على أحمد الذي انتقل من رجل إلى آخر، وكلما أخذه رجل في عباءته، يوشوشه في أذنه، ويُسمعه الشهادتين. بعدها، تناولته النساء بالزغاريد والبسمات. كان أطفال الشارع والحي فرحين بهذا المولود، وتناولوا البسكويت والكرملة والفيشار، وغنوا مع النساء أغنيات جميلة للمولود. وحينما أذن للعشاء، أتى المهندس بابنه، ووضعه بجانب الإمام، وصلوا العشاء. المولود ظلّ صامتاً، حتى أتموا الصلاة. بعدها، صفت الأواني والصحون المملوءة باللحم، وتناولوا عقيقة المولود.
بعد ذلك اليوم، ظل أحمد يستمع إلى الآذان وهو صامت، شاخصاً إلى السماء، ومبتسماً ابتسامه الملائكة.