مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

لا أحد يأبه

منذ الفجر..
لم يأبه أحدٌ لنا..
وقد مر فجر تلو الآخر علينا..
كنا في حالة من العويل يصل إلى البحر الذي ترتطم أمواجه بجدران السجن الذي نقيم فيه منذ زمن، وقد توقف الزمن على جدرانه، لولا أنَّ آخر سجينة بيننا كانت حورية من البحر، شابة جميلة جداً خرجت لجلسة التحقيق، وعادت بعد عدة ساعات مثلنا جميعاً، ولم نقو على النظر بوجهها لأننا كلنا كنا نعي هذا الوجع.
وبعد أن مرت الأيام وهي جالسة في الزاوية لا ترفع بصرها إلا لشبه نافذة صغيرة في أعلى الجدار يمر منها ضوء هارب. يسقط بلا ظلٍّ على وجوهنا ثم يغادرها بلحظة. أخذت تضرب رأسها بالجدار ثم تضرب بطنها بقسوة، وتتشقلب بما بقي فيها من قوة، وطلبت من الجميع أن يدوس بطنها.. ولم ينفع.
ومنذ ذلك الوقت قررت أكبرنا أن تحفر الوقت بأظافرها على الجدران مسجلة للشابة متى ستضع مولودها.
لكن الوجع الذي جاءها كان غريباً أقض مضجع البحر المجاور لجدران السجن، فراحت أمواجه ترتطم بنا من كلِّ جهة، ووجع المخاض للفتاة المنتشرة على الأرض يرتطم بنا بكل قوته من جهة أخرى.
وبدونا كقوارب تائهة تارة. وأخرى تسير فوقَ مدِّ الموج العالي.
طال الزمن، وأقضّ صراخها صمت المهجع.
تجمهرتِ النسوةُ حولها..
تسلّقتُ بنظري ركام النسوة المتجمهرات.
الصوتُ يموجُ تارة وأخرى يحبو على الأرض.. يعلو المدُّ جوارنا يلتمس خطاه، وفي دهشة المشهد أجدني مثل البقية نتجمهر في حلقة مغلقة بإتقان حول الفتاة التي كانت تشهق فتبتلع البحر بكلِّ غضبه، ويركن بهدوء غريب في جوفها. حتى بتنا نسمع أصوات أمواجه تأتي من جدران رحمها الغاضبة.
وهكذا ارتطمت سفن العابرين جوارنا إلى كلِّ شواطئ الأرض بجدار السجن، ولم تعد قادرة على عبور جدار الصوت الذي أوقف المدّ البشري حولنا.
اقتربت (إيليثيا) بمشعلها وأضاءت للجدة الكبيرة فينا طريق يدها نحو الجنين الذي أطل برأسه بدهشة لا تشبه الدهشة.
تكوّمنا ككتلة واحدة.. القشعريرة تعلونا، والفتاة تتوهج في لحظة لم أر مثلها في حياتي.
تبعثرنا ثم تسوّرنا حولها وأصبحنا مدينة مغلقة الأسوار.. حتى أن سجانّنا طرق الباب دون جدوى فلم يتمكن من فتحه.
تومئ (إيليثيا) للبحر وللسفن العابرات الشاهقات بالهدوء. يسكن الموج العالي.. وتشهد الأرض لحظة صمت حين تندفع بكامل رحمها في بطن البحر.
يتوهج الضوء المنبعث من مشعل (إيليثيا) أرى الفتاة وقد انتشرت على وجه البحر وأيقظت براكين الأرض النائمة منذ عهود الرّدة، تشهق.. وتلعق بشفاهها الندى المُنصب من وجنتيها. ثم تلقي بجنينها دفعة واحدة في حضن الجدة التي أقعت ساكنة على الأرض بلا حراك وهي مذهولة برأسه الذي تفحصنا جميعاً.
مرّ أمامنا شريط من الأسماء، والنسوة العاريات، وآخر من الأولاد لآباء أنذال. والأولاد يلعبون بلا كلل. يعيدون ترتيب اللحن الذي تعلموه في بطون الأمهات.
يبكي *ميشيل كيلو* في حضرة الصبي وقد خانته لغته في شرح معنى الشجرة والعصفور..
تَجهرُ الفتاة بالبكاء صمتاً، وتربُت بيدها الطفلة على كتف الشيخ (كيلو) فينحني ظهره من ثقل اليد، ودون مقدمات تُرهق الريح القادمة عبر الجدران تُحكم قبضتها الصغيرة على وليدها وتلتقمه دفعة واحدة معيدة إياه إلى جوفها.
جدران السجن تنهار..
بصمت مهيب تغادر (إيليثيا)، ويحمل الهواء نعش (كيلو)
يفتح السجّان الباب وينظر ببلاهة إلى النسوة..
ثم يقول: تباً لَكنَّ ماذا حصل؟
تبتسمُ الفتاة، وتُحكم الجدة قبضتها على صرخة الروح إذ تغادر الجسد في لحظة عابرة.
نسمعُ قعقعة السفن التي التصقت بجدران السجن تعبر من جديد عباب البحر المجاور لأجسادنا.
وتمر (إيليثيا) قرب نافذة السجن وقد حملت بيدها صغيراً يحمل بيد ضفيرة وبالأخرى (عروسة زيت وزعتر).
وفي سارية البحر صوت الجدة: (يا طالعين الجبل. يا موقدين النار.. هونا الهنا يا روح.. هون الهنا في روح).

ذو صلة