مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

محسن عبدالعزيز: نكتب لأننا لا نعرف شيئاً غير الكتابة

حوار/ عذاب الركابي: مصر


محسن عبدالعزيز والكتابة لحظة إنصات إلى الذات وتلصص بدفء وحنان عليها، والإبداع بمجموعه حالة إنسانية راقية. وليمة مشاعر وأحاسيس، يصعب التحكم بها أحياناً، تطاردك يقظاً ونائماً، والقصة القصيرة لديه، وحدها عبقرية إبداع، وهي تتمكن من استيعاب أنقى هذه الأحاسيس وأرقاها.
مبدع والكتابة لديه هوسُ تحرّر، بدأت بلا شكل، من الشعر إلى القصة إلى الصحافة، وإلى الأفق الأوسع. إلى السرد العابر للأزمان. إلى الرواية - سؤال العالم بكليته كما يقول هرمن بروخ.
محسن عبدالعزيز والكتابة لحظة اكتشاف الذات، وكأنه يُعيد عبارة مارغريت دوراس: (لا نكتبُ شيئاً خارجَ الذات).. ولديه الذات بوصلته التي لا تُخطئ!
(المجلة العربية) تحاور الكاتب والإعلامي والقاص المصري محسن عبدالعزيز رئيس القسم الثقافي بجريدة الأهرام، ليتحدث عن كيمياء وتقنية الفنين العظيمين، القصة القصيرة والرواية، فإنَّ القصة القصيرة برؤاه هي الفنّ الأصعب، وهي تشكلُ تحدّي الكاتب لنفسه، واختبار ثقافته أيضاً، ومن خلالها يفكّر في كيفية احتواء العالم، من دون أن يقول إنه يمتلك شهوة إصلاحه، ليس كل أحد يمكنه كتابة القصة - كما يرى، بخلاف الرواية، فكثرة كتّاب الرواية، يضع هذا الفن في مأزق، فقد أُطلق على بعض الروايات - الثرثرة.
ولديه لقراء (المجلة العربية) الكثير من الحديث الدافئ.
محسن عبدالعزيز الذات الكاتبة.. من بدأ أولاً الباحث أم القاص المبدع في الكتابة المغامرة الشاقة -العذبة- و(المسؤولية المرعبة) برؤى همنجواي؟
- في الحقيقة لا أعرف يقيناً من بدأ أولاً، إذا تجاهلنا البدايات الأولى لأي مبدع مع الشعر المقفى، على الأغلب يكون إرهاصاً بالكتابة أو الإبداع عموماً، كتبت القصة القصيرة في المرحلة الجامعية، وفي نفس الفترة كنت مفتوناً بالصحافة، أصدرت مجلة في قريتي بصعيد مصر، كان يكتب فيها شيخ الجامع والقسيس. الناس في البداية كانوا ينظرون إلينا بسخرية، لكن تحولت السخرية إلى احترام بعد أن أصبحت المجلة تحمل شكواهم من إهمال الطبيب أو عدم جودة رغيف الخبز.. إلخ. ما أريد قوله إنني لا أعرف من بدأ أولاً هذا الطريق الشاق الطويل. ولو فرضنا أن الإنسان يكتشف ذاته أولاً ثم يبدأ في اكتشاف العالم المحيط تكون الكتابة الإبداعية الذاتية هي التي جاءت أولاً، فهو يحاول أن يعرفَ نفسه أولاً ثم يعرف العالم بعد ذلك.
ثلاث مجموعات قصصية بدأت بـ(ولد عفريت تؤرقه البلاد) وليس انتهاء بـ(كأنني حي) ورواية وحيدة (شيطان صغير عابر) لماذا؟ أهي القصة القصيرة الأكثر إجابة عن اسئلتك الإنسانية؟ أم ماذا؟
- القصة القصيرة بالنسبة لي أكثر إجابة عن الإحاسيس والمشاعر الفوارة، تشبه طلقة في وجه الواقع، تصدمه، تقلقه، أو حتى تستدر الدموع من عيونه القاسية، أو تجعله يفكر. وكلنا نذكر قصة (نظرة) ليوسف إدريس هذه القصة التي لا تنسى عن طفلة تحمل صواني الكعك ليلة العيد، وبينما تمشي في الشارع تلقي نظرة على الأطفال في مثل عمرها يلعبون. هذه ليست مجرد نظرة ولكنها طلقة ضد قبح العالم الذي يحرم طفلة من اللعب ليلة العيد، والأكثر إيلاماً أنها تحمل فوق رأسها أهم طقس من طقوس العيد -الكعك- لكنه بالنسبة لها تحول من طقس الفرح إلى طقس للعمل والشقاء ليلة العيد.
أجمع جل كتاب العالم على أن القصة القصيرة هي الفن الأصعب لماذا؟ لكثافتها واقتصادها. وهي كالسهم في الهدف كما قال ماركيز؟ ما وجه الصعوبة في هذا الفن الراقي؟
- القصة كائن حساس دقيق، تحتاج التكثيف الذي لا يصل إلى الغموض أو يخل بالمعنى، وكذلك الوصف الدقيق دون إسهاب أو تطويل. كل كلمة في القصة القصيرة لها هدف أو معنى، وأي كلمة يمكن حذفها يجب حذفها فوراً، القصة لا تحتمل أي زيادات أو ترهلات. هي تحد للكاتب كيف يصوغ عالماً مكتمل الأركان في بضع كلمات أو بضعة أسطر. إنها الفن الأصعب فهي لا تقوم على الحكاية مثل الرواية وإن كانت الحكاية جزء من تقنياتها، لكنها ليست الحكاية التقليدية على الأغلب، إنها الذروة في الحكاية، أو لحظة التنوير في الرواية التقليدية، وعندما تستطيع أن تقتنص هذه اللحظة الذروة بتفاصيلها الإنسانية تكون القصة. ويجب أن تكون كالطلقة أو السهم كما قال ماركيز، وأعتقد أن كتابة القصة تحتاج إلى مراوغة ولياقة وهي أمور تأتي من الثقافة الواسعة وخبرة الحياة، أشياء قد يفتقدها بعض من المبدعين فيأتي إبداعهم خلواً من أنفاس الحياة. القصة فن صعب لا يكتبه أي أحد عكس الرواية التي يكتبها كل الناس الآن. وأعتقد أن هذا السيل من الروائيين سوف يضع فن الرواية في مأزق.
أطلق الناقد السيميائي رولان بارت مصطلح (ديكتاتورية الكتابة) ومفهومه لدى نجيب محفوظ (الكتابة أو الموت) ولدى ماريو برجاس يوسا (الطريقة الوحيدة لكي أحيا) لماذا نكتب؟ وما الجدوى من الكتابة في عالمنا (المتاهة)؟
- إنه أصعب الأسئلة حقاً.. لماذا نكتب؟
لا أحد يعرف! وجل الإجابات تدور حول أكتب كي أحيا، أو عدم الكتابة يعني الموت. والحقيقة أن هناك كتاباً كثيرين توقفوا عن الكتابة مثل نجيب محفوظ نفسه الذي توقف عن الكتابة مدة طويلة بعد ثورة يوليو 1952 ورغم ذلك لم يمت! وهناك من توقف كلياً مثل الأديب عادل كامل صاحب روايتي (مليم الأكبر) و(ملك من شعاع) وهو الذي دعا محفوظ لشلة الحرافيش وكان من أقرب أصدقائه، ترك الأدب كلياً وعمل بالمحاماة، ولم يمت أيضاً.
ما أريد قوله إننا نكتب لأننا لا نعرف شيئاً غير الكتابة، نحن مجبرون على الكتابة محتملين هذه المشاق على أمل تغيير العالم الذي لم يتغير أبداً إلا إلى الأسوأ. أصحاب الكلمات من الكتاب والفلاسفة والمفكرون دائماً يريدون أن يغيروا العالم.. لكن إذا كانت هذه هي النتيجة فلماذا نريد أن نغير العالم إذن؟!
الفضاء الثقافي غارق في مياه الروايات، وصخب الروائيين، ما تفسيرك لذلك؟ أهو انتصار لصرخة حنا مينا (الرواية ديوان العرب) أم هي الجوائز أم هم الناشرون أم ماذا؟
- جزء من الصخب سحر الحكاية وسحر الجوائز أيضاً، سحر الحكاية جعل الكل روائيين، وسحر الجوائز حافز آخر على الكتابة لعل وعسى. ثم دخل الناشر على الخط، أصبح الفوز بجائزة مشروع أو شركة يساهم فيها أكثر من طرف، وكل واحد له نصيب يتم الاتفاق عليه.
كإعلامي ورئيس القسم الثقافي في أيقونة الصحف المصرية وأكثرها انتشاراً (الأهرام) والمشرف لسنوات عديدة على ملحق الجمعة الثقافي الجامع الماتع، ما رأيك في صحافتنا الثقافية؟ أهي صحافة علاقات ومجاملات وتبادل مصالح كما يرى البعض؟ ماذا تقترح لصحافة جادة منافسة؟
- حالة الصحافة الثقافية تدعو للحزن وبخاصة أن الكثير استسلموا لمقولة أزمة الصحافة الورقية ليداروا عجزهم المريع، وما يقومون به من انتقائية فجة في النشر لمجموعة من الأصدقاء أو أصحاب المصالح، فغدت إصدارات ثقافية عريقة عبارة عن جيتو مغلق، النشر والحوارات والكتابة عن مجموعة ضيقة فقط، ضيقاً واسعاً ثم تقول: أين القارئ؟ وهؤلاء يجب أن نقول لهم: وأين الإبداع والثقافة في مجلتك أو جريدتك؟ ظني أن الثقافة آخر شيء يتأثر بمنافسة الإنترنت لأن القارئ والمثقف الحقيقي لا يستطيع أن يهجر الكتاب الورقي وإن اضطر أحياناً للقراءة على الإنترنت لكتاب يصعب الحصول عليه مثلاً، لكن هذا استثناء بالطبع، فالمكتبة والكتاب هي الفعل الثقافي الأثير لكل مثقف، وأعتقد أن الصحافة الثقافية تنجح في كل وقت وحين لأنها تستطيع أن تقول كل شيء بفن وإبداع دون صدام مع أي نظام سياسي، فالثقافة تجمع المختلفين وتفتح نوافذ للالتقاء. الصحافة الثقافية التي تدعو طول الوقت للحوار وقبول المختلف عليها أن تشرع النوافذ وتدع كل الزهور تتفتح، العالم العربي بحر زاخر بالمبدعين الذين يملكون الخيال والرؤية لتغيير واقع أمتنا وثقافتها ولكن للأسف، المشهد يتصدره لوبي عديمي الموهبة وأصحاب المصالح، وهؤلاء يتربعون فوق العديد من الصحف الثقافية!

ذو صلة