مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

إدريس علوش: الكتابة تعني أنك تحب ذاتك وتنصت إليها

حوار/ عذاب الركابي: مصر


الشاعر والكاتب والإعلامي المثابر (إدريس علوش) والكتابة الفعل الموازي للحياة. لحظة ملحة لاكتشاف الذات، وحبها والإنصات لها في آن، بكل ما في الكلمات والأخيلة من شفافية. والشعر وهو بذاكرة القلب، رهان المستقبل الآتي والخراب الضروري الذي نادى به كبير شعراء الحداثة (آرتور رامبو) في صرخته الكونية: (ثمة خراب ضروري). وفي زمن اللاقيم، والفوضى غير الضرورية، وانتهازية الواقع، يبدو الشعر لديه (فاقد العذرية). والشاعر في تماس حذر مع تيمات الوجودي والكوني والحياتي والذاتي.
والشعر حكاية الذات المتشظية الباحثة عن ذاتها، ولا انشغال كونياً لها غير كتابة القصيدة والسفر الواقعي والمتخيل والافتراضي والتماهي وكيميائها. والقصيدة سؤال لا متناه تظل الإجابة عنه ظامئة متلهفة وعمياء. إدريس علوش.. الكتابة هوسها التحرر، وثوابت الإبداع هي الحرية اللامتناهية.. وشعر وإبداع من غير حرية موت!

شعر، صحافة وإعلام، ويوميات ثقافية.. كتابة تبقى في محراب كلمة جادة، وهو ببخور الهموم المتجددة، ونبيذ الروح، ومعبودها الحرية.. لماذا الكتابة؟ وما الجدوى من هذه المغامرة، رغم ما فيها من متعة ومشقة؟ أهي ما بقي لنا من رهان في عالمنا المتاهة؟ أم ماذا؟
- كل هذا وأكثر لتحاكي فعلاً نبيلاً هكذا يبدأ الاعتقاد. وبمعنى آخر أنت تبحت عن اكتشافك لذاتك ولأكثر من مرة، وأكثر من وهلة، ودائماً عبر ممارسة فعل الكتابة ومحاكاة ذات الفعل النبيل. وأتصور أنك لن تتوقف ولن تمل أبداً إلا بتوقف انشغالات الروح وانشطارها لتصدي ترسانة الأسئلة بما فيها الأسئلة الحارقة.. أما السؤال لماذا الكتابة؟ فتلك مسألة أخرى لها صلة وصل بماضيك وبحاضرك، وربما بالآتي أيضاً كنوع من الاستشراف ليس للمستقبل ولكن للآتي، وأياً كان هذا الآتي ولو أنه في الغالب يأتي معتماً وضبابياً ومفترساً وخرافياً أحياناً.. وبصورة أوضح يأتي سوداوياً وكئيباً كتصدع المرحلة.
لكن الكتابة أيضاً تعني أنك تحب ذاتك، وتنصت إليها، تحب ذاتك لأنك تدرك شأنها وأفقها ودهشتها، تحبها لأنه ليس لك وظيفة أخرى، لدرجة تصبح هذه الذات البوصلة التي تقودك نحو الخراب أو النجاح حسب توغلك في شرنقة الكتابة أو بمعنى آخر توغلك في المتاهة.
والشعر قبلتك التي لا يمكن تغييرها، كما الحلم.. كما الحرية، لماذا الشعر نزيف الروح، وهو أقصى درجات الحرية، في عالم وواقع لم يعد شعرياً؟
- ربما لأنه الوحيد الذي يراهن على المستقبل، والخراب، ومحطة تنتج الحزن أكثر من الفرح، تنتج الفراغ أيضاً وتثقل كاهل الوجود، وأرجوحة لا تحتاج إلى بطارية. يراهن على المستقبل -يحدث هذا للشعر- بمعنى أنه يسعى ليكون لغة المستقبل دون أن يستطيع. وربما لأنه الآن في غياب القيم فاقد للعذرية، لكنه سيبقى، لأنه حفر مجراه في الوجود والروح والتاريخ. وهذا الذي يحدثوننا عنه الآن والذي هو (الذكاء الاصطناعي) هو امتداد للشعر في أن يكون لغة بلا مستقبل. في لوحات الذكاء الاصطناعي سيتحول الشعر من الفضيحة إلى الجريمة.
رصيد إبداعي شعري هائل، أكثر من خمسة وعشرين ديواناً شعرياً، ابتداءً من (الطفل البحري 1990)، وليس انتهاء بـ(بمنمنمات 2022)، ويظل الشعر سؤالاً ميتافيزيقياً.. أي سؤال هذا لم تستطع أي إجابة ظامئة متلهفة اغتياله؟ أهو وجودي؟ كوني؟ حياتي؟ ذاتي؟ أم كل ذلك؟ أم ماذا؟ حدثني!
- لا أتصور أن شاعراً يدرك بشكل جيد أو على الأقل بشكل شاعري الحد الفاصل بين هذه (التيمات) الوجودي منها والكوني والحياتي والذاتي، وأقصى ما يمكن أن يفعله هو أن يتواجد في حدود التماس مع هاته الجبهات، دون أن يقترب أو يلمس كنه المعنى أو جوهره الحي، ويبقى دوماً أنه سيد شرف المحاولة ليس إلا.. وهذا الشرف، شرف المحاولة أنا لا أدعيه.. أنا لا أتقن الحديث عن شعري لأنه لا يعنيني كثيراً، يعنيني فقط ساعة يكون مادة أولية خامة، آتية من ينابيع الحياة ولحظة الكتابة.. لكني أحاول أحياناً أن أتفاعل إيجابياً مع بعض جملي الشعرية وفي كل الأحوال هي قليلة ونادرة. وأعتبر الجزء الأهم في وجودي هو ساعة انشغالي بكتابة الشعر في محطة القصيدة، في انشغالي باليومي والحياة العادية والاعتيادية. لا أحب ثرثرة النقاد لأنها إسقاطات فجة. ولا أثق في رثائهم للنصوص. وأعتمد في فهمي للشعر على الشعراء، والتشكيليين والرحالة وكتاب القصة القصيرة فقط، وندماء الحياة والكأس معاً.. وعلى ضوء ما أسلفته من قول أنخرط في أسئلة الشعر، الأسئلة وليس الأجوبة، والأجوبة في العادة قطعية، والأسئلة عندي لا متناهية وتتجدد باستمرار ومن هنا أهميتها خصوصاً في الشعر، لأن هذه الأسئلة كلما تعددت اتسعت رؤية الشاعر وكبرت جغرافية القصيدة وفاضت اللغة بسحر المعاني والبيان والاستعارات.
ما رأيك بمصطلح (ديكتاتورية الكتابة) الذي أطلقه السيميائي (رولان بارت) عام 1953 في كتابه (الكتابة في درجة الصفر)، وخلاصته اللاتحديد، واللاقواعد للنص، وهي بمفهوم عبقري الرواية نجيب محفوظ: الكتابة أو الموت! ماذا تقول؟
- إذا فهمت المعنى فلكل كاتب آفاق انتظاراته عندما يتعلق الأمر بممارسة فعل الكتابة والإبداع، وهذا قد ينطبق على الذين اختاروا أشكال التعبير الفني الأخرى، تشكيل، ومسرح، سينما، وموسيقى.. وأحياناً الإبداع هو اللاقواعد، وبيكاسو يذهب إلى هذا المنحى وهو القائل: (لا قواعد للفن)، أو على الأقل لا ثوابت في قواعد الإبداع. وهذا ما كان يقصده محمود درويش بقوله (حريتي فوضاي). ومن ثوابت الإبداع الحرية، والحرية اللامتناهية أحياناً. وربما هذا ما يقصده نجيب محفوظ بقوله: (الكتابة أو الموت)، وبمعنى آخر إذا انتفى مبدأ الحرية في الإبداع يموت هذا الأخير.
الشاعر إدريس علوش إعلامي أيضاً.. توليت مهام مجلة إبداعية مهمة في مدينة أصيلة وهي (مرافئ). كانت بداية رائعة ماذا حصل؟ ما أسباب توقف المجلة؟ واقعنا الثقافي ألغام من علامات الاستفهام والتعجب بلا شك! كيف تقيم صحافتنا الثقافية، وقد بدت مرآة مهشمة؟
- هي فعلاً (مجلة مرافئ) من حيث الإسهام كانت مساهمة متواضعة في التعريف بالصحافة الثقافية المغربية المستقلة، المستقلة تماماً عن الرأسمال الموجه من جهة، ومن جهة أخرى مستقلة عن إعلام الدولة الرسمي. كانت وبوضوح تام ومن البداية منتصرة للحداثة الشعرية الكونية ومنحازة لقصيدة النثر، وللشباب بشكل خاص. هكذا كانت الانطلاقة سنة 1998. تجربة متواضعة من إسهام مجموعة من فناني ومبدعي مدينة أصيلة، يتعلق الأمر بالفنان التشكيلي المرحوم (عبدالإله بوعود)، والفنان الفوتوغرافي المرحوم (أحمد غيلان)، والناقد والكاتب (يحيى بن الوليد) وأنا، لم تعمر طويلاً لكنها كانت غيمة مغربية عابرة وممطرة. لم تعمر لأنها كانت تحتاج لدعم مالي وهذا ما كان ينقصها، ولهذا الاعتبار توقفت رغم أنه كان في جعبتها العديد من الملفات تود الاشتغال عليها ونشرها تباعاً، ومنها ما كان جاهزاً ملف الشعر العراقي في ظل الحصار. الآن واقعنا الثقافي في مجمله يعتمد على دعم الدولة، أو دعم جهات مانحة (الخواص) بخلفيات وأهداف دقيقة ومحددة. وهذا ما يحرم الروح المبادرة من استقلاليتها ويغرق التجربة في التبعية التي تصل أحياناً إلى التبعية الذيلية. وهذا ما يجعل هذه المرآة مهشمة كما هو وارد في سؤالك، وضبابية تحجب الرؤية وأفقها، خصوصاً أن هذه الممارسة استقدمت لاعبين محترفين في إدارة وتدبير الصحافة الثقافية، ومنهم من هو عابر للقارات، ويمكن إدراجهم في العمالة الثقافية.
وأنت المهاجر أبداً في عوالم القصيدة - الإبداع الموازي للحياة.. كيف تفسر هجرة الشعراء (الشرعية) إلى السرد وعالم الرواية؟ هل عجزت القصيدة عن الإجابة عن أسئلتهم الإنسانية الحضارية؟ أم هو اللهاث على لقب الروائي؟ أم الجوائز المتعددة؟ أم الممول الناشر - التاجر؟ أم ماذا؟
- ربما لأنهم صدقوا أكذوبة الكاتب (حنا مينة) يوم أعلن أن الرواية هي ديوان العرب، وأن الشعر لم يعد يحتل هذه المكانة. والشعر الآن بضاعة كاسدة، وهذا (التشييء) مقصود وبعناية فائقة. وأتصور أيضاً أن الجوائز التي خصصت للرواية وسال لعاب الشعراء قبل الروائيين لها، ساهمت في إحداث وقْع التصدع وفك الارتباط بالقصيدة عند بعض الشعراء وأصبحوا يشمئزون من صفة الشاعر ويثيرون صفة الروائي. أو دعني أصارحك إنها الليبرالية المتوحشة ساعة تحدث التغيير في كل شيء، وتصنع الفارق، وهو الانتساب العضوي لثقافة الاستهلاك والترويج والتسويق لمستنقعات الجشع. والدليل أن الآداب كل أجناس الآداب تقريباً أصبحت مثل وجبة سريعة لنقل مثل (الهامبورغر) أو صفيحة البيتزا. لكن القصيدة ستبقى وسجل مفرداتها محفوظ في لوح الكون، لأنها دوماً كانت حافظة لروح البشرية وأحاسيسها السامية.

 

ذو صلة