مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

سيد الوكيل: القصة فن نخبوي.. والرواية تسمح بالتلقي الشعبوي

حوار/ داليا عاصم: مصر


مبدع من طراز خاص، ومثقف رفيع، جمع بين السرد والنقد، صاحب بصمة في القصة والرواية، اتسمت أعماله بطابع تجريبي، مثلت أشكالاً جديدة في اتجاهات السرد ما بعد الحداثي، دائم الإبحار عكس التيار. بداية التسعينات أسس صاحب (فوق الحياة قليلاً) جماعة (نصوص) 90 الأدبية، في 2018 أسس موقع (صدى: ذاكرة القصة المصرية)، له 4 مجموعات قصصية و3 روايات. استطاع بحس سريالي جريء أن يناقش قضايا اجتماعية ملحة، شخوصه تجمع ما بين الغرائبية والواقعية. وهو يرأس تحرير سلسلة إبداعات قصصية. كرمه (ملتقى الشارقة للتكريم الثقافي) لدوره في خدمة الثقافة العربية المعاصرة ومنجزه الأدبي الثري. حاورته (المجلة العربية) حول محطاته الإبداعية وجوانب من حياته وشواغله، فإلى الحوار:
(صدى: ذاكرة القصة القصيرة) يبشر بحركة إبداعية واعدة نقدياً وسردياً.. هل نجح الرهان على المتلقي؟
- أسست (صدى القصة) احتجاجاً على مقولة زمن الرواية، التي أفضت إلى تهميش القصة، فعزفت دور النشر عن نشرها، واكتفت الجوائز بالرواية، وأعلن البعض عن موت القصة. أثبتت التجربة حسن ظني بالقصة، فهي الآن الأكثر انتشاراً على مواقع التواصل الاجتماعي، وسمحت بعدد أكبر من المتلقين، وشجعتهم على كتابة قصصهم، وخواطرهم. وهذا الهدف من الموقع وهو في تطور دائم.
حينما تباغتك نشوة الكتابة.. ما الذي يحدد بوصلتك نحو الرواية أو القصة؟
- القصة بنت حدس اللحظة كما يقول (جاستون باشلار) فهي تنبثق في ذهن كاتبها فجأة كمجرد خاطرة، ثم تلح عليه فتنضج وتكتمل. يمكن للقصة مع كثافتها، وتوظيف الدوال أن تصبح بقوة رواية. عندما كتبت روايتي (شارع بسادة) كانت مجرد قصة، وبعد 7 سنوات من نشرها، قرأتها فأدركت ما فيها من اتساع دلالي وعمق، فتحولت إلى رواية وأصبحت من أهم الروايات في التسعينات.
هناك مقولة نقدية تقول (القصة فن لا يقبل الهواة).. هل فن القصة نخبوي؟
- مقولة صحيحة.. فهي صعبة في كتابتها.. احتياجها إلى التكثيف، والتفاعل التقني، والعناية بالعلامات والدوال.. إلخ. الرواية تقبل الاسترسال والإسهاب وتعدد الوقائع.
إذن.. بالمقابل هل تكون الرواية فناً شعبوياً؟
- النزعة الحكائية في الرواية تسمح بالتلقي الشعبوي، ويكون على سبيل التسلية، كما نرى في (أمسيات قرب قرية ديكانكا) لنيقولاي جوجول التي تمثل مجموعة من القرويين يتبادلون الحكايات في جلسات السمر ليلاً. وهذا موروث قديم فالرواية خرجت من رحم الملاحم والأساطير، وحتى ما قبل الثورة الصناعية في أوروبا، كانت الروايات موضوعاً للتسلية في المجتمعات الرعوية، فيه تجتمع الأسرة حول المدفأة، ويجلس كبيرها ليقرأ عليهم الرواية، عرفت بـ(روايات المدفأة)، حققت نماذجها الأولى في (دون كيختي) لسيرفانتيس والديكاميرون لبوكاتشيو، واستمرت على هذا النحو حتى الثورة الصناعية، فبدأت الرواية تنضج وتستفيد من تقنيات السرد الحديث للقصة القصيرة التي مثلت المجتمعات المدنية الحديثة.
في رواية (فوق الحياة قليلا).. هل تعمدت مراوغة المتلقي بتشكيلات سردية متنوعة وباختزال شخصيات أدبية في شخص (الشاعر- وهدى كمال- والقاص الجنوبي).. وما هي حدود الواقع والخيال في ملامحهم؟
- أحيّ حضرتك على انتباهك لتقنية المراوغة، فلم ينتبه إليها أحد من قبل، فالمراوغة تثير وعي المتلقي، وتوجهه إلى مسارات وتفسيرات مختلفة للنص، وتبدو مثل لعبة شطرنج بين الكاتب والقارئ، وبها يكون القارئ شريكاً في إنتاج النص وفقاً لنظرية القارئ والاستجابة عند (هانز ياوس). دعيني أعترف التقطت هذه التقنية من أعمال (ميلان كونديرا). كل شخصيات (فوق الحياة قليلاً) حقيقية وموجودة في الحياة الأدبية. لكن (هدى كمال) وهذا اسمها الحقيقي كانت زميلة فترة التعليم الجامعي، واستمرت العلاقة بيننا لقرابة عشرين عاماً تنقلت فيها بين مراحل قاسية تمثل صور العنف الذكوري على المرأة، ولذلك احتلت مكانة بارزة في أغلب أعمالي، بدأت بمجموعة قصص (أيام هند) ثم روايتي (فوق الحياة قليلاً، والحالة دايت) وأخيراً مجموعة (مثل واحد آخر). هذا ما يعرف في النقد بالشخصية المصاحبة، عندما تكون الشخصية المكتوبة في النص، ذات حضور حقيقي ومؤثر في وجدان الكاتب، فتلح عليه كلما بدأ الكتابة، ولا يمكنه تجاهلها.
نوفيلا (شارع بسادة).. تجمع بين الواقعية السحرية والسوريالية، يجد القارئ فيها عوالم متصلة ومنفصلة، شخصياتها تنعش ذاكرة المتلقي لعوالم عاشها ثم ترمي به إلى عالم خيالي.. هل قصدت أن تجعلنا نشعر بالاغتراب لتصل رسالتك حول قضية الاغتراب المكاني والنفسي والصراعات الطبقية وغيرها من القضايا الاجتماعية الملحة؟
- شخصيات شارع بسادة حقيقة أيضاً، فالطفل البدين الذي أرسلته أمه إلى القرية، ليعيش في كنف الجدة، هو أنا. وأبطال الرواية هي شخصيات حقيقية، لكن تصويري لها في الرواية كان مغرقاً في الخيال، أفسر ذلك بمشاعر الاغتراب التي عشتها في القرية وقتما كنت أقف على عتبات المراهقة، أرصد البيئة من حولي بدهشة، فهي مختلفة تماماً عن القاهرة التي ولدت وعشت فيها، ربما كنت أملأ المساحة الفارغة بين القرية والمدنية بخيال واسع لمراهق.
كانت مرحلة تشكيل هويتي المضطربة بين المعتقدات الدينية التي تلقيتها من الجدة، والممارسات البشرية للناس من حولي، ربما لهذا سكنتني تلك العوالم المنفصلة والمتصلة، تلك التي تشيرين إليها في سؤالك الذكي، على الرغم من أنني لم أبدأ في كتابة الرواية إلا بعد أن أنهيت تعليمي الجامعي، فإذا بكل المشاعر والذكريات، والوقائع التي عشتها في صباي، تعبر عن نفسها سرداً، ليس لدي تفسير لهذا، ولكني أعترف أن كتابة الرواية، أوصلتني لدرجة من التصالح مع تجربة الاغتراب التي عشتها، وأدركت أنني أحببت جدتي وأمي بعمق، لدرجة أن أمي احتلت مساحة كبيرة في رواية (الحالة دايت) عنوان مربك وغير دقيق، لكنه كان التعبير الذي سمعته من الممرضة وهي تخبرني بوفاة أمي، وهي تقصد (she died) فجعلته عنواناً للرواية.
كناقد أدبي.. هل أنت ضد قولبة السرد؟
- قولبة السرد ظاهرة رافقت زمن الرواية، فلا نجدها في القصة إلا نادراً، فكل قصة يكتبها المبدع نفسه، هي خلق جديد تنتجه الذات الساردة. لكن كثرة الجوائز للروايات التاريخية، أغوى كثيراً من الكتاب المبتدئين أن يكتبوا روايات تاريخية، وهي تتشابه في موضوعاتها، بل وعناوينها، فكل ما يفعله الكاتب أن يقرأ كتاباً في تاريخ المماليك، أو المورسكيين، ثم يبدأ في تصميم روايته، ومشكلة هذا الأداء أنه يخلق مسافة كبيرة بين الذات والموضوع. فيبدو الموضوع مجرد قالب، يمكن استعارته وإعادة إنتاجه بشكل مختلف. ونفس الأمر يحدث مع كتاب الخيال العلمي، يشاهدون أفلاماً عالمية، يلتقطون فكرتها ويصيغونها بشكل مختلف. لهذا فالقولبة، تعني تهميش الذات الساردة، وهي منبع الإبداع، والخيال، والجمال.
في كتاب (تذويب العالم) ناقشت مسألة النخب.. برأيك لماذا نشعر بضعف دور النخب الثقافية؟
- النخبوية كانت ممثلة في شخصيات بعينها أمثال محفوظ، وإدريس، وزكريا تامر، وعبدالرحمن منيف، وأمين معلوف. عندما كان الإبداع جهداً فردياً ومتميزاً بذات كاتبه، لكن الأدب الآن، وبفضل وسائط التواصل التكنولوجية أصبح شعوبياً، يراهن على (الترند) وآليات التسويق والانتشار. هذا أتاح لكل وأي شخص أن ينصب نفسه كاتباً أو ناقداً، فأصبح المشهد الأدبي مشوشاً، وخطورة هذا تتجلى في إستراتيجية (صناعة النجم) التي فرضتها السينما الأمريكية. صناعة نجم يتم تسويقه على نحو واسع، حتى يستهلك، ثم فجأة يظهر نجم جديد، ليضع النجم السابق في الظل. هذه الإستراتيجية تمارس في الأدب أيضاً الآن من خلال الإنترنت. وعلى الرغم من هذا، فمازالت النخب حاضرة في ذاكرتنا ووعينا كأجيال سابقة، أما الأجيال الجديدة فينظرون لهم باعتبارهم كلاسيكيين انتهى زمنهم. وهذا فهم خاطئ للكلاسيكية، فهي نوع من الفنون له سمة الخلود، على نحو ما نجد في مسرح شيكسبير، ولوحات دافنشي، وروايات تولستوي.

ذو صلة