الرواية تلك الكلمات التي تنفخ الروح بالشخصيات، فتمنحها الحياة داخل اللغة، فيما يقابلها الفيلم الذي يُروى بالصور، وكلاهما يشتركان بالصراع والحوار، ومن هذين الخيطين يمكننا أن ننسج حرير الرؤيتين السينمائية والروائية بين روايتي (آنا كارينينا) للكاتب الروسي تولستوي و(الكبرياء والهوى) للكاتبة الإنجليزية جين أوستن، إذ تنطلقان من ثيمة متعددة، فالأولى عن العلاقات غير المتوازنة بين امرأة أرستقراطية، زوجة كونت كبير في الدولة؛ وضابط شاب يصغرها بسنوات، فالحبُّ المخفي هو الثيمة الأساس التي تفجر بداخلها العديد من ثيمات الصراع. فيما نجد رواية الكبرياء والهوى تبدأ من العلاقات الاجتماعية التي تحدّدها الطبقية بين الطبقتين الأرستقراطية والوسطى، وتنشأ علاقة حبّ بين فتاة ذكية وجميلة من الطبقة الوسطى؛ وشاب ثري من الطبقة العليا، يدعى مسز بنجلي، فيجتمع بينهما الحبّ والكبرياء، لينتصر الأول على الثاني.
وما أن أمعنا النظر للمقارنة بين نصّي الرواية وسيناريو الفيلم؛ سنلحظ أن الفيلمين سارا برؤية واحدة، وهذا الحكم المسبق قد يوقعنا في شرك الإشكالية الحيّة بين السينما والرواية، إذ يتهمُ الروائيون المخرجين بأنهم لم يصونوا المودّة المتبادلة بين فنّي الأدب والدراما، حتّى المتلقي يصاب بدهشة الغرابة عندما يرى روايته المفضّلة تحررت من اللغة المكتوبة، وصارت بصرية تتحرك وفق صورٍ متنقلة وشخصيات تشعرنا بوجودها الواقعي عند خروجها من المتخيل السردي، بالمقابل لا ننكر دور السينما التي أخرجت الروايات الكلاسيكية من أدراج المكتبات، ونفضت الغبار عنها، ووضعتها في بنية القصة السينمائية الصحيحية، ونقلت فعل القص من الماضي إلى الحاضر، وصار المشهد الدرامي يركز على أمرين أساسين هما: (الفعل والشخصية)، ولعل هذا ما يميز (آنا كارينينا) (والكبرياء والهوى)، الرويتين اللتين تحولتا إلى فيلمين، وعندما نعقد موازنة دقيقة نرى في الصورة المشهدية ارتباطاً بين الجسدية والفعل الانفعالي، ممّا جعل النص السردي ورؤية كاتبه لم تتبعثر مع رؤى المخرج، لأنَّ الفيلمين من إخراج المخرج (جو رايت) وتمثيل الممثلة (كيرا دايتالي)، فخضعا لمخرج واحد وممثلة واحدة، وربما هذه الميزة الأهم للفيلم، وهي التي أثارت فضول كاتبة المقال. وبالرغم من تشعب موضوعات الروايتين، وتكثيف الشخصيات الثانوية، لكن المخرج جو رايت استطاع أن يمسك بوصلة السرد الروائي ويغير اتجاهها ويوجهه نحو (الفكرة، الشخصية، والقصة، والمجابهة، والنهاية)، وهذه أهم تقنيات السيناريو النموذجي، التي ظهرت على شريط الفيلمين، فنلحظ أثناء المقارنة بين النص المكتوب والنص المشاهد أنهما يحتفظان بتوهج الثيمة، وحركية الصراع، ونرى تحرر المكتوب من الحشو اللغوي عند عرضه على الشاشة، وتخلّص المخرج رايت من الإيقاع البطيء للسرد، لكنه حافظ على أدبية وخصوصية الرواية، ففي الحوار بين الشخصيات تظهر لغة المجاز، ورؤية كاتبها الأصلي، بالمقابل نلحظ تدخله في تسريع وحذف المشاهد من النص الحقيقي.
ففي فيلم (آنا كارينينا) الذي أنتجته الولايات المتحدة عام 2012 ومدة عرضه 129 دقيقة، وهو زمن قياسي للفيلم الناجح الذي يتألف نصه السيناريو من ثلاثة فصول: (بداية/ تمهيد ووسط/ المجابهة، ونهاية/ الحل)؛ نرى في الدقائق العشر الأولى الشخصية البطلة وهي (آنا كارينينا) امرأة جميلة أرستقراطية زوجة كونت ثري (فرونسكي)، ولديها طفل واحد، نراها في إحدى الحفلات تتعرف على الضابط الشاب، من هذه اللقطة هنا تبدأ رؤى المخرج بالظهور على الشاشة، عبر تنقل الكاميرا بين الشخصيتين وفعلهما، وبين أجواء الحفل، يتمّ التركيز على النظرات المتبادلة بينهما، والحركات البطيئة التي تقوم بها البطلة، وكيف تؤثر على ردود فعل شخصية الشاب الضابط، فالنظرات حددتها الكاميرا عبر الزوم zoom، وهي تقترب من حدة العين وطرفها، تشير سيميائياً للمتلقي عن ليل الحب الذي سيجمعهما ولم تشرق لهما شمس، بحكم العلاقة المحرّمة بينهما، التي تنكشف سريعاً، فهذه التمهيدات البصرية تدخلنا في جو المجابهة التي أتقنتها البطلة عندما تقمصت شخصية المتخيل في النص الأصلي، وكيف حاولت إقناع المشاهد بتمردها الناعم على المجتمع ومحاولة دفاعها عن علاقتها غير الشرعية، التي أنجبت منها بنتاً من ثمار الخطئية، فتندفع القصة إلى الأمام وهو غاية المشهد الذي يوصلنا إلى نهاية الفيلم لنشاهد اللقطة الرئيسة بمحطة القطار، فتركز الكاميرا على جلوس البطلة ونظراتها نحو جهة وصول القطار، ثم تقترب الكاميرا بتقنية الزوم إلى السكة ووجه البطلة المتسم بالقلق، الذي يتسلل إلى المشاهد، وانتظارها للقطار ليس جديداً على مُشاهد الفيلم، لأنّه تكرر كثيراً؛ لكن رؤية المخرج رايت زرعت التشويق والتشتت بالنهاية المرتقبة ومدتها ثوانٍ تكسر توقعات المشاهدين، عندما رمت نفسها أمام القطار وانتحرت بهذه الطريقة القاسية. ونجد كسر توقع المشاهد أيضاً في فيلم (الكبرياء والهوى) -ترجم بترجمة أخرى (كبرياء وتحامل)، فنلحظ تطابق مشهد الافتتاح الذي يبدأ من حديث الأم مسز بينت إلى زوجها بوجود مستأجر جديد بجوارهما، وهو شاب ثري وجميل يدعى السيد بنجلي، يظهر إلحاح مسز بينت لتزويج بناتها الخمس من رجال أثرياء، ومن الحوار الذي يعرضه الفيلم نستشف عن وجهة نظر المجتمع إزاء الزواج في مجتمع طبقة الملاك في القرن التاسع عشر في إنجلترا، لذا لم يغير مخرج الفيلم جو رايت من النص الروائي في المشهد الافتتاحي؛ لأنّه أعطى للمشاهد وسيلة النفوذ في حياة الشخصيات، كما أنه صار يدفع بالقصة إلى المجابهة، وهي رفض أبناء الطبقات الأرستقرطية الزواج من بنات الطبقة الوسطى، فكبرياء البطلة إيزابيث وذكاؤها اللذان أظهرهما المخرج لمشاهدهِ هما منحى القصة في التأزم الدرامي، وخلق العقبات، فصارت الشخصية البطلة تقوم بالفعل، وتُجابه بردّ الفعل من شخصية مسز دراسي التي اتسمت بالغرور الذي تبدد بالحوار بينهما في مشهد مطري، فنرى في جو المشهد وتطابقه مع جو مشاعرهما حين غسل المطر حزنها، وقطراته الكبيرة وهي تبلل الموقف المتصلب بينهما، لترطب القلب بماء الحب. زاوية الكاميرا ركزت على الصورة المائية (قطرات المطر ودموع إيزابيث ودارسي وندى الأشجار)، وهذه العلامة السيمائية التي صنعها المخرج تشير إلى تبدد المواجهات، وإزالة العقبات، وشروق شمس الحب، وهذا يتلاءم مع مشهد الختام الذي تمّ تصويره في حقل زراعي بين العشب والزهر، وزمان اللقطة هو أول شروق للشمس، فأظهرت الكاميرا لحظة الشروق وانعكاسها على وجه البطلين، بلقطات متتابعة توحي بنهاية القصة المكللة بالحب، ويدفع إلى مشهد الختام الليلي المتوهج بالشموع التي تحتضنُ مساحة حبهما وبالضوء الذي يشع في المكان.
إنَّ كتابةَ الفيلم أشبه بالرواية، ولذلك عمل المخرج جو رايت عند إخراجه للأفلام ذات الأصل الروائي أنه أبقى المتفرج منتبهاً على الدوام إلى الفيلم عبر إدخال لحظات التشويق، مع تخلل لحظات أخرى بالسكينة، وهكذا عمل على إتقان حبكة البنية السردية للقصة في نصها الأصلي، وحصد جهده أُكله، ففيلم الكبرياء والهوى رشُح لجائزة الأوسكار، ولم تغترب الروايتان عندما أُدخلتا إلى عالم السينما.