لا يمكن الكتابة عن الصورة النمطية دون تناول أثر الاتصال في تكوينها، وهي تتكون نتيجة الاعتقادات المتراكمة من المعلومات التي تصل إلى أفراد المجتمع عن طريق الأحاديث المتداولة والتي في نهاية الأمر قد تكون ثقافة تجاه الأشخاص والأشياء والأماكن والشخصيات والحكومات بل حتى الدول، وقد اتسعت وتزايدت اليوم أهمية وسائل الإعلام والاتصال وعلت مكانتها في المجتمعات مع ارتباطها الوثيق والتصاقها بالأفراد والجماعات والمؤسسات والهيئات والدول بمختلف أنشطتها، من خلال ما تقدمه من فرص التواصل مع العالم المحلي والإقليمي والدولي، وما تزوده به من معلومات غزيرة ومتجددة عن مختلف الأحداث والأنشطة الداخلية والخارجية، فالتقدم الهائل، والنمو المتزايد لوسائل الإعلام والاتصال، زاد وضاعف من الوظائف المرتقبة منها، كما أدى إلى زيادة اعتماد الأفراد والشعوب عليها لتلبية كثير من احتياجاتهم ورغباتهم، ومن المؤمل أن تساهم وسائل الاتصال التقليدية والحديثة في تعزيز الصور الصحيحة عن المجتمعات وسلوكها خصوصاً بعد بروز صحافة الفرد والاتصال الرقمي وانحسار دور المؤسسات والمشاركة الخاصة في العملية الاتصالية.
في ذهن كل واحد منا صورة نمطية عن نفسه ربما تكون صحيحة أو خاطئة، وهو يريد الطرف الآخر أن يعامله بها، والشعوب أيضاً لديها تصورات عن سلوكها تريد من الشعوب الأخرى أن تعاملها بها، وينعكس هذا الأمر على الحكومات والدول، وفي تقديري أن الخطوة الأولى في تصحيح الصورة النمطية تبدأ من الدراسة العلمية والواقعية للذات والاعتراف بالسلوك الذي أفرزته الثقافات المحلية وتعزيز الجوانب الإيجابية، ثم بعد ذلك وضع إستراتيجية اتصالية لبناء صورة حقيقية إيجابية تعمل على الوجود الناعم والحقيقي في المحيط المستهدف دون اللجوء إلى عمليات النفي والصراع الاتصالي والحرب الإعلامية.
إن عمليات ترسيخ الصور النمطية ترتكز على قواعد فطرية وإنسانية، فهي من عادات البشر وطبائعهم، وقد اهتم بعض الباحثين بهذا الجانب وتناولوا في دراساتهم دلالات الصورة النمطية في القرآن الكريم وانعكاسها على الوعي المجتمعي، والقرآن الكريم في كثير من الآيات أوضح هذه الحقيقة الفطرية فيقول عز وجل: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس) سورة النجم الآية 23، ووضع منهجاً للتعامل مع الصور النمطية، حيت دعا الإنسان إلى أن يفكر في كل أمر، ليكون فيه على علم، يقول تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً) سورة الإسراء الآية 36.
إن الصورة النمطية لا تتصل بأشياء وأحداث وشخصيات وشعوب تعبر عن الحاضر فقط ولكنها تتأثر بالتاريخ وتوارد المعلومات وتعاقب الأجيال مما يجعل ذلك مخزوناً معرفياً تترسخ فيه الاعتقادات التي في كثير من الأحيان تجانب الحقيقة، ومن هذا التاريخ تتكون صورة نمطية عن المستقبل مما يوسع من الفجوات الاجتماعية والتواصل المبني على الواقع، وبعد أن تحول العالم من قرية إلى كوخ صغير بفضل الإعلام الرقمي تجاوزت هذه الصور النمطية حدود الزمان والمكان، وتعد ظاهرة التعميم من أخطر الإفرازات السالبة للصور النمطية، فالإنسان قد يكون فكرة شاملة عن شعب أو دولة من خلال تصرف فرد، فيعتبر كل شخص تنطبق عليه صفات الجماعة، كما أن الصورة النمطية في كثير من الأحيان تظل مجرد انطباعات تترسخ بصورة غير موضوعية من خلال معلومات جزئية غير مكتملة تمارس من البعض من غير المحترفين في وسائل التواصل الاجتماعي، فيتم تصدير هذه الصور إلى متلقين غير مندمجين بالثقافات المحلية فتتكون عندهم أطر دلالية بعيدة عن الحقيقة ومجافية للواقع.
تظل المصادر المكونة للصور النمطية في أغلبها تجريبية تنطلق من مواقف خاصة للقائم بالاتصال، وقد لاحظت ذلك من خلال توثيق بعض المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي لزياراتهم لبعض الدول، فينشرون بعض المواقف التي قد تكون سالبة، فتستقر في المخزون المعرفي والتذكري لبعض المتلقين الذين يجهلون ثقافة الدولة التي تمت فيها العملية الاتصالية، وهذا الأمر في تقديري يتطلب تدخلاً لترسيخ الممارسات الأخلاقية والقانونية للمؤثرين في نقل هذه الصور لأنها تعتبر الجزء المؤثر في الدبلوماسية الشعبية التي قد تنعكس على منتجي المواد الإعلامية المؤثرة فيصورون بعض الشعوب في مواقف درامية غير حقيقية من خلال ما تنشره هذه الوسائل، وهذا يتطلب توسيع ثقافة الاتصال المبنية على القيم الأخلاقية، كما يتطلب من الحكومات الاهتمام بصناع المحتوى على المستوى الوطني والتركيز على الجوانب الحقيقية الإيجابية التي تتمتع بها هذه الشعوب، وقد خلصت العديد من الدراسات العلمية إلى أهمية الممارسات الاتصالية في بناء الصور النمطية، فالعالم الأمريكي (ولبر شرام) يشير إلى أن نحو 70 % من الصور النمطية التي يعتقدها الفرد عن العالم المحلي والخارجي أساسها الممارسات الاتصالية، ووفقاً لذلك لا بد من المساهمة الحقيقية في التدفق الاتصالي والتحكم فيه، وفي ذلك يقول عالم الاتصال الأمريكي (أليفين توفل): من يتحكم في المعلومات يتحكم في العالم.
إن هذا الموضوع المهم يظل أحد التحديات في ظل المناخ العالمي الذي يشهد إعادة تشكيل الهويات الثقافية والاجتماعية والسلوكية، وذلك بالتخلص من الانبهار والحفاظ على القيم النبيلة، خصوصاً على المستوى العربي، والاستفادة من الثراء والقيم الاجتماعية الراقية التي تتسم بها مجتمعاتنا العربية وفق ممارسات ترتكز على المصداقية والبعد عن التضليل وتزوير الحقائق، والعمل في أطر منظمة لاستدعاء محتوى عربي بديل يتسم بالنوعية الرفيعة الراقية، والشكل الجاذب الذي يخاطب بصورة خاصة الشرائح في طور التكوين الفكري مثل الأطفال والمراهقين، وذلك لا يتأتى إلا بالعمل على بناء قائمين بالاتصال في المحيط العربي على قدر من المسؤولية الأخلاقية والكفاءة المعرفية بدورهم المهم في تشكيل الصور النمطية، ويمتد هذا الأمر لتكوين وعي مجتمعي من خلال المناهج والمقررات الدراسية لتكون مهارات الاتصال جزءاً من التكوين التعليمي لطلبة المدارس، حيث إن الممارسات المرتبطة بتكوين الصور النمطية ما عادت تقوم بها المؤسسات والهيئات والحكومات فقط، ولكنها أصبحت سلوكاً مجتمعياً يومياً، هذا بالإضافة إلى المساهمة الفاعلة من الأنظمة الحكومية إلى لفت الانتباه للمضمون الراقي والتعبير عن الثقافات المحلية وإثراء الجانب التراثي والمعرفي وتوسيع دوائر أنشطة الفنون والآداب وتعدد منافذها من خلال المنتديات والمهرجانات والمؤتمرات والملتقيات، واستخدام اللغات المختلفة لتعريف العالم بالثقافة العربية، والاهتمام بالجمهور وإدماجه في عمليات الممارسات الاتصالية الإيجابية، وتطوير منصات التواصل بطريقة تعمق من المنافسة العالمية والوجود المعرفي والثقافي في عالم مختبئ داخل هاتف محمول.