لم يعد التواصل بين البشر مقتصراً على الكلمة في بعدها المكتوب أو المنطوق، بل تجاوز ذلك إلى لغة الصورة المرئية والتي أصبحت اليوم نموذج الاتصال الأمثل، بحسبان أن البعد البصري صار أكثر قدرة على التقاط وإيضاح وتفسير المعلومات متفوقاً بمراحل على الكلمة المسموعة، بل اكتسبت الصورة على الدوام قدرات عالية في النفاذ إلى حواس المتلقي وخياله ومشاعره وأساريره، بفضل العناصر التشكيلية التي بات التحكم في بنائها (فنياً وجمالياً) من أهم ما يميز الصورة، اللغة العصرية المستحدثة.
ومع ذلك فإن عملية بناء الصورة لا تتم فقط عن طريق الرموز المكونة لها كالألوان والخطوط والأحجام والظلال، بل دخلت الكلمة نفسها عنصراً مهماً في عملية البناء عن طريق التعليق والحوار الدرامي بشكل تفاعلي، لتسهم في الكشف عن المعنى الكامن للصورة دون أن يفقدها خواصها أو يأخذ مكانها.
العرب وتأخر التعبير بالصورة
تعد قضية اللفظ والمعنى من أهم القضايا التي شغلت التفكير العربي -قديماً وحديثاً، فقط لأن قواعد اللغة كانت ولم تزل ترتبط بعملية الاتفاق الاجتماعي بشأن لغة التواصل بين الأفراد والمجموعات، لأن رموز هذه اللغة تشكل فهم هذا المجتمع أو تفسيره أو سلوكه تجاه عالمه المادي أو الثقافي. غير أن الثقافة العربية متهمة بالتأخر في التعامل مع لغة الصورة المستحدثة، اللغة التواصلية التي أخذت مكانتها باحترافية جوار الكلمة، ولعل تجاهل التعامل مع الصورة يرتبط بولع العربي بلغته الشفاهية التي ورثها بوصفها لغة شعرية وخطابية كانت لها أسواقها ومنتدياتها قبل ظهور الإسلام.
ثم يدخل البعد الديني في عالمنا الإسلامي وعبر كثير من المذاهب الفقهية ليحذر من التعاطي مع الصورة والتصاوير خوفاً من الوقوع في دائرة الشرك، وقبل عقود قليلة كانت بعض الفتاوى تُحرِّم حتى استخدام الصور الفوتوغرافية في جوازات السفر، وفي بداية التسعينات من القرن الماضي وعندما ظهرت القنوات الفضائية كانت بعض الدول العربية تُجرِّم من يقتني صحن استقبال البث التلفزيوني خوفاً مما أسمته بالغزو الثقافي بدلاً من مواجهته بذات أدواته. وقبل هذا الوقت بقرن كامل كانت الدول الأوروبية قد قطعت شوطاً كبيراً في ترسيخ الصورة الفيلمية وتوظيفها حاملاً ثقافياً لا سبيل للتصدي له أو اللحاق به.
وعندما كان نصف العالم يقع تحت الاستعمار الأوروبي الكولينيالي، كان هناك استعمار ثقافي جديد يؤرخ له بميلاد أول عرض سينمائي على يد الأخوين (أوجست ولويس لومير) في مقهى (الجراند كافييه) في فرنسا في الثامن والعشرين في ديسمبر من عام 1895م، وتبع ذلك ميلاد أول فيلم سينمائي عام 1902م في الولايات المتحدة.
وبلغت السينما ذروتها في عام 1946م، اذ بلغ عدد مشاهديها تسعين مليوناً في الأسبوع في أمريكا وحدها، وكتب حينها (لاروين بانوفسكي) أحد النقاد السينمائيين مؤكداً (أن السينما سواء رغبنا أم كرهنا، هي القوة التي تصوغ أكثر من أي قوى أخرى، الآراء والأذواق والزي والسلوك والمظهر المدني لجمهور يضم أكثر من (60%) من سكان الأرض).
وكانت السينما بالفعل وقبل انتشار التلفاز تمثل زاداً أسبوعياً للشباب والمراهقين من أبناء الدول النامية، وبخاصة سكان البنادر والأقاليم، وبرز تأثيرها في خلق البيئة الحالمة لمشاهديها عبر المشاهد واللقطات المشحونة بالمغامرات والحب والأُبهة والإبهار. ومنذ ذلك الوقت وبفضل التطور الذي لم ينقطع في إنتاج وبث الصورة، ظل العالم الغربي يحتفظ بتفوقه في استخدام الصورة سلاحاً ناعماً في حروبه السرية التي تعتمد على تقنيات متقدمة في عملية بنائها وتكوينها، حتى أصبح عصرنا الحاضر يوصف بعصر الصورة، والذي يقع ضمن الجيل أو المجتمع الخامس (Fifth Society) الذي يأتي بعد أربعة أجيال رئيسة مرت بها البشرية وهي: مجتمعات الصيد، والزراعة، والصناعة، ومجتمع المعلومات. ثم يبرز (مجتمع ما بعد المعلومات) الذي يقوده باقتدار الهولوغرام، والميتافيرس، والذكاء الصناعي (Artificial intelligance) الذي تندمج فيه المعلومة والآلة مع عقل الإنسان.
وقد أصبح جلياً أن من يمتلك آليات توظيف هذه التقنية وعبر هذه البيئة الإلكترونية الجديدة، يكون الأكثر قدرة على التأثير في سلوك الفاعلين المستخدمين لها، ولذا أصبحت الثقافة الغربية المنتجة للتكنولوجيا، هي الثقافة الغالبة والمهيمنة، حيث قدمت نفسها ثقافة عالمية للمجتمع، الأمر الذي جعل الخصوصية الثقافية لبعض المجتمعات موضع تهديد حقيقي، وبخاصة عندما غيرت التكنولوجيا أشكال الحروب والصراعات البشرية إلى نوع جديد من الحروب السيبرانية، التي تستخدم نوعاً آخر من الأسلحة المتمثلة في فيروسات الكمبيوتر التي لديها القدرة على إلحاق دمار يوازي دمار الأسلحة التقليدية، بل يفوقه في بعض الأحيان. وليس ببعيد ما حدث في لبنان في الأيام الماضية عندما أنفجرت أجهزة (البياجر) في أيدي أعضاء حزب الله بفعل سيبراني على يد إسرائيل.
الصورة الفيلمية والهندسة الاجتماعية
تعرف الهندسة الاجتماعية بأنها تحليل وضبط مجتمع ما عن طريق ربط كميات كبيرة من المعلومات التي يتم معالجتها عبر مراكز حوسبة خاصة وبسرعة كبيرة وفائقة، وتلعب وسائل ومواقع التواصل الاجتماعي الدور الفعال في جمع هذه المعلومات عن طريق ما يكتب أو يبث عبرها من مقاطع صوتية أو فيلمية واقعية أو متلاعب بها. فالصورة أصبحت أهم أدوات الأسلحة الصامتة، تلك الأسلحة التي تطلق وتحدد المواقف بدلاً من إطلاق الرصاص، وتقوم بمعالجة المعلومات بدلاً من التفاعلات الكيميائية، وتلعب بالعقل الباطن عبر سايكولوجية سرية، بدلاً من مخاطبة العقل الواعي. وتفعل ذلك بطريقة لا يدرك فيها الفرد أو المجتمع حقيقة هذه الأسلحة، وإن أدرك ذلك فلن يستطيع مواجهتها. فالأفلام التي تصور بؤس المجتمعات الأفريقية عبر الغابات والأدغال، يجعلها في نظر المجتمعات المتقدمة مجتمعات لا تمتلك عقولاً تضعها في مصاف البشر إلا بعد انتشالها قهراً أو عطفاً بواسطة الرجل الأبيض، واستخدمت هذه الأفلام لإلحاق الهزيمة النفسية واستدراجها لقبول الاستعمار في القرن الماضي.
وبذات الهدف أنتجت هوليوود كثيراً من الأفلام التي تصور المسلم بصورة نمطية أيقونية (الوجه الصارم والجلباب الأبيض الذي يظهر الكرش المنتفخة واللحية الكثيفة السوداء)، وهو يجلس على أريكة في فندق أو منتجع في باريس أو لندن وحوله حسناوات الغرب نصف عاريات يتشببن به لينعمن بالهدايا من الذهب والجواهر، غير أن الأسوأ من ذلك أن تنساق دول عربية وراء هذا النوع من التنميط السينمائي والتلفازي في تكريس الصور الشائعة لشعوب عربية مثلها، ويتلقى الغرب مثل هذه الشهادة من أهلها ويجعلها لافتة أو بطاقة تصنف العربي أو المسلم وفق هواها، لتلعب الآلة الإعلامية بعد ذلك دورها في هندسة هذه الفئات أو المجتمعات، لتحقيق أغراض غامضة غايتها السيطرة على العقول قبل السيطرة على مساحات أخرى اقتصادية، سياسية أو ثقافية.
ونظام السيطرة على العقول يتخذ من الصورة (الصادمة) وسيلة لزرع الشك ونقض الثوابت واهتزاز الثقة، فمشهد فيلمي واحد متقن كفيل بتحقيق أثمن الأهداف وأغلاها عندما تتداوله المنصات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي. وأقرب مثال لذلك ما حدث مؤخراً مع فيلم (حياة الماعز) المصنوع باحترافية عالية لتشويه نظام اجتماعي في بلد عربي هو قبلة قلوب المسلمين التي يوحدها بيت الله. فالغرض البعيد الخفي هو نزع القدسية عن تلك الأرض المقدسة. وصانعو الفيلم يعلمون أن المشاهد الصادمة ستظل ولوقت طويل في حالة تفاعل رمزي يفعل فعله في العقل الباطن للمسلم وغير المسلم.
هكذا تستخدم الصورة في حروب المجتمع الجديد، مجتمع الثورة الخامسة، والذي لا قبل لأحد بمواجهته وتحديه إلا بامتلاك أدواته وإتقان التعامل معها بجدية واحترافية.