عندما رقد مريضاً بالمستشفى الخاص، ناظراً إلى سقف حجرته الفارهة المكيفة، عاجزاً عن استخدام أي من أنواع الترف الموجود في جوانبها، كما أنه ممنوع من تناول كل أنواع الملذات التي تضمها الثلاجة بأمر الطبيب.. أدرك أنه مات.
الزمن بالنسبة له غير معروف، ولم يفكر في ذلك، كما أنه لم يفكر في عمره، تماماً مثلما لم يفكر في شكله أو حتى زينته، فلم ينظر في المرآة أبداً، فقط بالكاد يتذكر ملامحه الجميلة: عيونه الواسعة، شعره المنسدل على جبهته، وجهه الأبيض البض المشرئب بالحمرة، هذه كانت ملامحه في أول وآخر صورة رآها وهو مقبل على العاشرة من عمره واختزنها في ذاكرته.
أدرك أن عيونه الواسعة، وشعره المنسدل على جبهته، ووجهه الأبيض البض المشرئب بالحمرة سوف يضم كل ذلك ثلاجة أقل فخامة وجمالاً من تلك القابعة في حجرته.
بعد ذلك لم يكن لديه وقت لتأمل ملامحه، حتى الصور الكثيرة التي كان يلتقطها في المناسبات العائلية أو للأوراق الرسمية، بالكاد كان ينظر إلى موضع لصقها على تلك الأوراق، فكانت عيناه مثل المرآة، تختفي منهما الصورة بمجرد ابتعادها عن عينيه.
رموشه المنسدلة على عينيه، غير محكمة الغلق؛ جعلته يشاهد من بين أهدابهما كل ما ومن في الحجرة: تأفف ولده، انشغال زوجته بجوّالها، جيوب الممرضة المنتفخة من أمواله لتعتني به.
- (أين تلك الزوجة الحنون؟! لماذا تشاغلت عني؟)
قال ذلك لنفسه، بعدما تذكر ماضيهما معاً.
نهضت الزوجة، وضعت إصبع إحدى يديها على فيه، بدون أن تنظر إليه، وباليد الأخرى تعبث في جوّالها، الذي وضعته بعصبية في حقيبتها المعلقة. إحدى يديها في كتفها واليد الأخرى تتأرجح في الفضاء، ثم انحنت عليه حتى يراها، واضعة إصبع يدها على شفتيها كعلامة ليصمت. قال لنفسه:
- (كيف سمعت ما يدور في نفسي، وكيف تأمرني بالصمت بوضع إصبعها على شفتيها.. شفتيها، لماذا تضع عليهما أحمر شفاه، فأنا مريض منذ.. من.. آه لم أعد أتذكر منذ متى؟)
لطمته بكفها على فيه، وقالت بصوت منخفض:
- (اصمت يا معتوه.. أنت خرفت!)
لم تكن الضربة قوية، ولكن رمزيتها جعلته يفتح عينيه عن آخرهما، فرأى وجهها كاملاً، يفيض حيوية وجمالاً، كأنها المرة الأولى التي يراها فيها.
- (هذه ليست زوجتي.. فمن تكون!؟)
- (أنا لست بزوجتك، ، أنا...).
لاحظ أنها سكتت مرة واحدة عندما بدأ هو في التفكير:
- (إذن من تكون..! أنا لم يكن لي عشيقات..! ربما تكون ابنتي أو زوجة ابني).
صرخت في وجهه:
- (اصمت.. أنت لم تتزوج قط، لم يكن لك عشيقات قط، أنت...).
- (أنا ماذا؟ هل أنا عقيم..! مستحيل.. أنتِ كاذبة).
لطمته على وجهه، وقالت بعنف:
- (عقيم ماذا؟ وكيف عرفت ذلك!؟ أنت مازلت..!؟)
- (مازلت ماذا..!)
قالها بعصبية زادت من تشنج حركاته.
أطفأ الشاب القابع على الكرسي سجارة كانت بين إصبعيه، ثم نهض مبتسماً وتحرك نحوه.
عندما اقترب ذلك الشاب منه لاحظ أنه كثير الشبه منه، وهذا ليس بعجيب فهو فيما يعتقد ابنه، فقال لنفسه:
- (ولكن كيف يدخن أمامي!.. لا بد أن المرض جعله لا يحترمني).
ضحك ذلك الشاب بطريقة استفزته، حاول النهوض لتأديبه لكن لم يستطع، جلس هذا الشاب على السرير بجواره، مسح على رأسه، ثم قال له:
- (ابني العزيز نم الآن.. أتمنى من الله شفاءك قبل الاحتفال بعيد ميلادك العاشر الذي سوف يحل بعد أيام).