لكي تظل أمي بيننا، كان عليها أن تتحول لشيء مختلف، أتذكر جيداً ما مرت به،
كأس الماء الذي كانت تبتلع به المسكنات، تخفي آلامها في ثقب قلبها المتسع، ثقب يزيد من ضرباته، كنت أسمع صوته في أذني عندما أحتضن أمي وتقربني منها، ربما كان هذا السبب في جعل ثقب قلبها يزداد اتساعاً.
وفي يوم أصبح الثقب ظاهراً، قبل أن تقوم بغزله بالورود، بدأت بوردة صغيرة تواري بها هذا الثقب، وحكت لنا أن أبي أهداها إياها.
وضعتها أمي على قلبها ازدهرت ونبتت بجوارها ورود صغيرة، سكن الورد دولابها.
بشكل تدريجي امتلأ الثقب بالورود، أبي الوحيد حينها الذي علم أنها وسيلة لبقاء أمي ولم يعلم أبي أن تلك الوردة التي أهداها لها، ستنمو في أركان المنزل ورحيقها يوقظنا مبكراً.
علم أبي أن أمي ستستيقظ بشكل آخر يوماً ما، وبالفعل استيقظت أمي كشجرة ورد، ترسم على خدنا قبلة وردية، وعلى الوسادة تضع وردة في الصباح.
تأقلمنا على كونها شجرة ورد، رغم اشتياقنا لملمس بشرتها، وحضنها الدافئ، ولم يكن هذا هو التحول الأخير في عائلتنا، بل كان هناك العديد من طرق التحول.
أما أبي الذي يعشق المساحات المتسعة، كان يجلس أمامها بالساعات، يرسم ملامحنا الصغيرة، فكان يختار المساحات متسعة وبيضاء، فالبراح الأبيض الذي يمتد أمامه وسيلة لإظهار إبداعه، وجعل الألوان أكثر وضوحاً.
جمع أبي كل الألوان، ورسم بها تفاصيل حياتنا، أمانيه لنا وماذا نحب وماذا نكره، كأنه يؤكد علينا أن نعرف أنفسنا جيداً.
اهتمام أبي بالمساحات، جعله يضم الكثير منها، فضم المنازل المجاورة لمنزلنا.
فأصبح لدينا المزيد من المساحات البيضاء المتسعة.
اكتفى أبي بما رسم من قبل، ومنحنا المزيد منها لرسم ما نحب.
وفي يوم استيقظ أبي من نومه كمساحة بيضاء كبيرة تجاور رسوماته، فكان هو المساحة الأكثر اتساعاً، وكانت هذه وسيلة أخرى للبقاء في عائلتنا.
أما أختي الصغيرة كانت تجيد طرح الورود في المنزل مثل أمي، فعندما تخرج تتعلق الورود في طرف فستانها، وأحياناً يتخلله عصفور صغير.
خشيت أن ترث ثقب أمي، أن تتخلى عن كونها بشرية مثلها ومثل أبي.
كان ألم الفقد أحد مخاوفي في اليقظة، وأحد أسباب نومي المتقطع.
بدأت أختي تتعلق بأمي كثيراً، تتعلق بتكوينها غير البشري، أعجبت أختي بكوننا من عائلة قابلة للتحول في أي يوم عند الاستيقاظ، كنا نتجادل فأنا أرى أنها طريقة مختلفة للفقد، ولكنها ترى أنها طريقة أخرى للبقاء سوياً.
أصبحت أكبر مخاوفي، أن تستيقظ أختي وهي متحولة لشيء آخر، فهي تعشق الأماكن المفتوحة، تمنح وجهها للهواء، وتفرد ذراعيها للكون، ظننت أنها إذا تحولت لشيء ستكون طائراً بالطبع، ولكنها عندما استيقظت في يوم، كانت نافذة يمر من خلالها الهواء، يحرك غصون أمي، ويداعب شعري القصير، يجفف ألوان أبي.
كانت نافذة مفتوحة دائماً أصبحت أرى الشوارع الممتدة من خلالها، أستيقظ على ورود أمي، أبي هذه المساحة البيضاء المتسعة، أختي النافذة التي أطلع من خلالها على ما يدور بالخارج، ولكنه الفقد رغم بقائهم، ربما كان الاشتياق لتكوينهم البشري الملموس، يد أبي وهو يرسم وجهي، ابتسامة أمي، والأمل في عيون أختي.
وفي يوم استيقظت بعدما شعرت بشيء يحدث داخلي، الشيء الأول مساحة ممتدة وأصوات بشرية، لم أكن أعلم ماذا سأتحول.
ثم شعرت أن هناك من يعبر داخلي بقفزات عالية، صوت أجراس الدراجات، سكنتني الأشجار والعصافير والمارة، ففي استيقاظي الأخير تحولت إلى شارع متسع يطل عليه منزلنا تسكنه التفاصيل.