مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

أطلس المخ : اللغز الأعجوبة

من قديم الزمان يحاول الباحثون فك ألغاز المخ البشري، ذلك العضو الأعجوبة. والمغريات التقنية تخطو بالإنسان هذه الأيام خطوات جسورة. لكن واجبه أن يدرك الشعرة الفاصلة بين الجسارة والغشم. بين الاكتشافات الجزئية وقيمتها في التصورات الكلية. بين المعرفة الحقيقية وفرقعات العلاقات العامة، خصوصاً مع تحول كوكبنا إلى كوكب عولمي يحاول الإعلام أن يصوغه في الصورة التي تروق للمصالح الغالبة، وبصرف النظر عن أية حقيقة، الأمر الذي يؤدي إلى أن يكون لبعض هذا الإعلام سطوة مزورة. والأرجح أن إشكالات، مثل فك ألغاز الدماغ، تطرح قضايا وأسئلة أكثر عمقاً ومغزى وإثارة للقلق.

بدأت تنتابه نوبات صرع على حين غرة، وعزا الأطباء المشكلة إلى ورم في الفص الجبهي الأيسر من دماغه، وقرروا بأن أفضل الخيارات العلاجية يتمثل في استئصال الورم جراحياً. وكان ذلك يعني إزالة بعض الأنسجة المحيطة، للتأكد من استئصال كل الخلايا السرطانية. لكن المعضلة التي ظلت معلقة دون إجابة هي كم الأنسجة المحيطة التي يجب إزالتها دون مساس بوظائف أساسية من وظائف الدماغ.. ودون أن يفقد المعني بصره أو قدرته على الحركة وغيرها.
ونقول معضلة لأن الطب يملك بعض التصورات العامة عن وظائف أجزاء بعينها من مخ الإنسان. لكن دماغين، حتى وإن كانا لتوأم متطابق، لا ينتظمان على نحو متشابه، ومن هنا قد لا يكون لفقدان جزء من الدماغ أثر يذكر على مريض ما، بينما يصيب مريضاً آخر بالشلل.
وحتى منتصف القرن العشرين لم يكن أمام الطب إلا المجازفة، عند الضرورة، وفق حسابات التصورات التقريبية. وترشيداً لمثل هذه المجازفات قام بعض الجراحين بإزالة أجزاء من عظام الجمجمة لكشف سطح المخ، وأقدموا على تدقيق وظائف مناطق بعينها من هذا السطح، عن طريق الاستثارة بتمرير تيار كهربي ضعيف عبر أقطاب كهربية دقيقة، إذ تبين أن ذلك لا يحدث أي ألم للمريض، حيث لا يحتوي المخ على مستقبلات للألم، كالموجودة في فروة الرأس مثلاً. وفي مجريات هذه العمليات كان يتم سؤال المريض عما يشعر به، أو متابعة ما يحدث له، مع الحث الكهربي، ومن خلال المراجعات يجري تحديد وظائف المناطق المختلفة. وقد أدت دراسات بنفيلد وروبرتس (1959) إلى رسم خريطة لمناطق سطح المخ، التي ذهب الاعتقاد إلى أنها تحتوي على الأنسجة التي تقوم بالوظائف المعنية، وفق ما تم استخلاصه من مراجعات المرضى.
وبالطبع صار تدقيق نشاط المخ بالاستثارة الكهربية طبقاً للتصورات العامة، قبل استئصال أي أجزاء منه مثلاً، بين الإنجازات الكبيرة. لكن هذا لم يكن بالحل المثالي، أو حتى اليسير، فسبر أجزاء من دماغ المريض المعني بواسطة مجسات إلكترونية ليس بالأمر السهل، لأنه يتطلب من الأطباء إزالة الجزء الأعلى من الجمجمة.
لكن الأمر وصل في الأيام الأخيرة إلى ما يبدو حلول أسطورية، حيث لا يتطلب إلا أن يضع المريض رأسه وسط طوق ماسحة التصوير بالرنين المغناطيسي مثلاً، واستجابته بالقيام ببعض الأنشطة التي تُطلب منه، كأن يقرأ بعض السطور أو يعطي مرادفات لبعض الكلمات أو يصف بعض الصور أو يحرك أصابعه وغيرها.
وعلى هذا النحو يتم تسجيل بعض التغيرات الطفيفة التي تحدث في المخ (مغناطيسيته، وتدفق الدم في أنسجته... إلخ) ليقرر الطبيب، من خلال معالجة اللقطات المختلفة، الحدود الآمنة التي يمكن ألا تتجاوزها الجراحة.
وقد تيسر حدوث ذلك نتيجة سيل التقنيات الجديدة التي تم اكتشافها خلال السنوات الأخيرة، بما تتيحه من معطيات هائلة الكم عن أداء المخ، مما فتح الباب أمام ثورة حقيقية في كل ما يتصل بمعارفنا عن هذا العضو المعجزة، فهناك حالياً، إلى جوار رسام المخ الكهربائي العادي، أجهزة تقيس الحقول المغناطيسية لأجزاء المخ، وأجهزة تقيس الكهرباء التي تسري فيها، وأجهزة تقيس كميات الدم أو امتصاص السكر (الجلكوز) في خلايا أجزاء المخ المختلفة، وأجهزة تتابع حركة ومقدار تدفق جزيئات مشعة خلال تجوالها وسباحتها في دروب المخ ومتاهاته، وذلك إضافة إلى وسائل كثيرة تساعد على تقصي الآليات الكيميائية التي يعمل المخ وفقاً لها. وكل هذه الأجهزة تقدم ثورة في تكنولوجيا التصوير العصبي الوظيفي، وبالتالي في معارفنا عن المخ.
ورغم أن الأجهزة الأحدث أتت بنقلة نوعية في متابعة المخ، فقد كان كثير من سابقاتها يقدم صوراً تقريبية لعمله. فعلى سبيل المثال كانت القياسات الخاصة بتدفق الدم في مختلف مناطق المخ تعتمد على نظير مشع يحقن في الشريان السباتي (أو يستنشق بدلاً من الحقن). ويتحد هذا النظير مع خلايا الدم الحمراء لتقاس بعد ذلك انبعاثات النشاط الإشعاعي الآتية من مختلف مناطق المخ، ويتم تحويلها إلى قياسات حيوية لتدفق الدم. ورغم الوضوح المكاني للصور الناتجة عن هذه القياسات إلا أن المادة المشعة كانت تتطلب وقتا للوصول إلى المنطقة المعنية منه، وكان ذلك يؤثر على الطبيعة التزامنية للمعارف التي نستخلصها من الصور، وقد يشوشها.
لكن أجهزة الرنين المغناطيسي -مثلاً- باتت تتيح، مع التطوير المتلاحق، صوراً فورية ومباشرة لما يحدث في أنشطة المخ المختلفة، في لحظة إتيان الفكرة نفسها، وبتفصيل يسمح بمعاينة أكثر البنى الدماغية صغراً، أي أنها تقدم صوراً لحظية للمخ أثناء العمل والتفكير. كما أن البرمجيات الحاسوبية التي تعالج هذه الصور، وتسعى إلى تكوين تصورات متكاملة منها، تشهد ثورة موازية هذه الأيام.
وتأثراً برسم أطلس عام إلكتروني تشريحي لأجزاء الجسم البشري؛ راود الدارسين عدم استثناء المخ، وجرت محاولات أسفرت عن وضع أول أطلس للمخ البشري يضم صوراً رقمية لأدمغة سبعة آلاف فرد.
إن الأطلس الطبي يقدم عادة صوراً عن تشريح الإنسان وأعضائه. وفي البداية كانت الأطالس تتكون من لوحات فنية يخطها رسامون، حتى أن واحداً من أول الأطالس الطبية كان من يراع الفنان الفرنسي الشهير أوجست رينوار. لكن الأطالس الطبية شهدت تطوراً كبيراً بالذات مع الإمكانات الرقمية، ومن هذا المنطلق صار هناك في الوقت الحاضر أطلس للدماغ، أساسه مجموعة من صور الرنين المغناطيسي، أخذت لطبقات الدماغ لا يزيد السمك فيما بين الصورة والصورة التي تليها على ميلليمترين. وهكذا تحول الدماغ إلى مجموعة كبيرة من الصور التي أخذت له (بالطول والعرض)، يتولى الكمبيوتر -في مرحلة لاحقة- تجميعها في صور ثلاثية الأبعاد، وفي أطلس المخ الرقمي أدمجت صور الرنين المغناطيسي مع صور التقطت بوسائل أخرى (مثل قياس تدفق الدم) تظهر الدماغ أثناء عمله، حتى أن الأطلس الرقمي الذي صنعه فريق ICBM يظهر كل مناطق الدماغ، ويبين أياً منها وهو يعمل، عندما يقوم الإنسان بهذا النشاط أو ذاك.
وهكذا تتيح الصور معاً كتلة افتراضية يمكن أن يتصور المرء معها وكأنه يحمل دماغاً حياً حقيقياً ويقلبه بين يديه، ويستطيع أن يستشف تركيباته الداخلية وأنشطتها المتباينة، وكأنما هو (مفتوح الصفحات) أمام العيون في حيز من الكريستال.
لقد نوهنا في البداية بأنه ليس هناك دماغان متشابهان، سواء في الشكل أو الحجم أو حتى توزيع الوظائف، ومن هنا تعذر الإشارة إلى منطقة ما والقول بصورة جازمة إن هذه هي المنطقة المسؤولة تحديداً عن الكلام، فعلى سبيل المثال يتضمن الكلام قيام المخ بعمليات التفكير فالعثور على الكلمة وفهم هذه الكلمة... إلخ، وهو يفعل ذلك بطريقة مختلفة من فرد إلى آخر. من هنا جاء تفكير بعض الدارسين في استحالة النظر في عمل دماغ أي إنسان، وتقويم هذا العمل، دون أن تكون هناك خريطة إرشادية مرجعية شاملة للمخ القياسي للإنسان. والطريقة التي توصلوا إليها لصنع ذلك هي جمع معلومات من أكبر عدد ممكن من الفحوصات (صور المخ) في محاولة للحصول على ما يشبه الدماغ العادي.
وحتى يجيء المخ القياسي معبراً عن الإنسان عامة، وليس فرداً بعينه، جرى الاعتماد على عينة من سبعة آلاف متطوع، صورت أدمغتهم بالطرق السالفة الذكر. وحاول الفريق العلمي أن تكون العينة شديدة التنوع. فشملت فئات عمرية من عشرين إلى أربعين عاماً، في حين أن بعضهم قد بلغ من العمر 7 سنوات والبعض الآخر 90 عاماً، وهم يعيشون في سبع دول تتفرق بين أربع قارات وينتمون إلى كثير من الأعراق. وينطوي الأطلس على خرائط بنشاط المخ وتحديد لمواقع الوظائف المختلفة مثل الكلام والذاكرة والعاطفة واللغة.
وبجانب أمخاخ الأصحاء تم تصوير أمخاخ بعض مدمني المشروبات الكحولية، وأناس يعانون من الزهايمر والانفصام والتوحد وغير ذلك من الأمراض. ومن هنا يمكن لمستخدم قاعدة البيانات (أطلس المخ) التجول بين تصنيفات عادية مختلفة، مثل التصنيف الخاص بالأشخاص الذين يتعاملون بيدهم اليسرى أو النساء الآسيويات أو غيرها، وبين تصنيفات مرضية تشمل صوراً لأمخاخ أشخاص يعانون من الزهايمر، أو الانفصام، أو التوحد وغيرها من الأمراض. ومقارنتها بغيرها.
إن صور المخ قد عولجت في الأطلس معالجة خاصة مما يجعل بالإمكان مقارنتها، والنوع الناتج من الصور القياسية يتميز بالوضوح والتفصيل الذي لا يمكن أن تتمتع به الصور الفردية. ولهذا يستطيع الدارس أن يرى فيها مالا يراه في الصور الفردية، وبالتالي يستخلص منها ما لم يكن بالإمكان استخلاصه بدونها.
فمن المسلم به أن المخ يكون أكثر قابلية لتعلم بعض الخبرات في فترات زمنية بعينها خلال النمو، ويمكن أن توضح لنا الصور في أي أوقات وفي أي من مناطق المخ يحدث ذلك، وفيما يخص أي من الخبرات. كما يمكن اختبار المقررات الدراسية لطلاب المدارس بالاعتماد عليها .
لقد جرى ما سبق في إطار مشروع دولي هو (أطلس الإنسان الرقمي)، الذي أفرد قسماً خاصاً للدماغ منذ عام 1993. وتولت أربعة مراكز علمية عالمية صنع هذا الأطلس: جامعتا كاليفورنيا وتكساس الأمريكيتان، ومعهد الدراسات العصبية في مونتريال (كندا)، ومعهد يوليش هينريتش هاين الألماني، وقام به دارسون ينتمون إلى أربع قارات من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا واليابان وفرنسا وفنلندا وألمانيا وهولندا. وبالإمكان الإطلاع على الأطلس عبر شبكة الإنترنت بالمجان.
ولا جدال في أن الأطلس الجديد سيؤدي إلى فهم الطريقة التي يعمل بها مخ الإنسان بشكل أفضل، وفي أنه سيعطي دفعات جديدة لفهم الأمراض العقلية، كما أنه يمكن أن يسهم في الوصول إلى أدوية أكثر فعالية لعلاج الأمراض.
لكن هناك معضلة حقيقية تكمن في مفارقة التقويم القياسي لمثل هذا العضو المعجزة بالغ المرونة، مع الإقرار بأن البشر مختلفين إلى حد يمكن معه القول إن لكل شخص دماغه الخاص! بشكل يفوق في خصوصيته كل ما نتحدث عنه بالنسبة لأنسجة أخرى، مما يجعل دماغ الإنسان مستعصياً على التنميط والقولبة.
لهذا السبب، فإن مشروع أطلس المخ ICBM يعلن أنه مفتوح، ومن الممكن لأي مركز يملك إمكانات مناسبة أن يضيف إليه. وأهمية الأطلس الذي جاء بعد عشر سنين من الجهد، أنه صنع النواة الأولية لصورة الدماغ البشري وعمله. وواضح أنه يفيد في تشخيص بعض الأمراض التي تصيب الدماغ مثل باركنسون وألزهايمر وغيرهما.
ولا جدال في القيمة الأساسية لهذا الأطلس من حيث كونها تنير للدارسين، بقيمتها الإحصائية، التصورات عن مخ الإنسان عامة، لكنها لا تنطوي إلا على قيمة استرشادية -تشير بها الوجهة الإحصائية- فيما يخص مخ هذا الفرد أو ذاك، فليس السواء والمرض، فيما يخص هذا العضو المعجز في فرديته، من النوع الذي نواجهه، حين نقرر مرض الفرد من عدمه، قياساً على تفاوت درجة حرارته ومدى دورانها حول 37 درجة مئوية.
إن مفهوم المخ الطبيعي أو العادي في غاية المراوغة، وخصوصاً حين يجري ربطه بالتفرقة بين السواء والمرض، بينما تتجاوز بعض الدراسات العلمية الحديثة مفاهيم المرونة الخارقة للمخ، إلى كشف النقاب عن قدرة المخ على استعادة نشاطه بعد الإصابة (بالجروح مثلاً) في أي مرحلة سنية.
لهذا ينبغي عند التعامل مع الأطلس ومع موضوعه عامة أن نتحلى بتفكير واع حقيقة، فكم من مآس نتجت عن تعميم مالا يعمم وتكميم مالا يكمم. إن المغريات التقنية تدفع الإنسان إلى خطوات جسورة، لكن واجبه أن يدرك الشعرة الفاصلة بين الجسارة والغشم، بين الاكتشافات الجزئية والقيمة الحقيقية لها في التصورات الكلية، بين المعرفة الحقيقة وفرقعات الإعلام والعلاقات العامة، وبخاصة مع تحول كوكبنا إلى كوكب عولمي يحاول الإعلام أن يصوغه في الصورة التي تروق للمصالح الغالبة، بصرف النظر عن أية حقيقة.. الأمر الذي يؤدي إلى أن يكون لبعض هذا الإعلام سطوة مزورة غير موضوعية.
والأرجح أن قضايا مثل صنع أطلس رقمي للدماغ تثير أسئلة أكثر عمقاً ومغزى وإثارة للقلق. ذلك أنه من الصعب فيما يخص المخ أن نقول إن هذا النسيج في هذا الجزء يقوم تحديداً بوظائف محددة، لا تستطيع الأجزاء الأخرى القيام بها، ذلك أن أنسجة مختلفة تبادر في ظروف متباينة بالقيام بما يعتقد أنها لا تقوم به. كما أن هذه الخرائط العامة تقود إلى تصور مؤداه أن من لا تتماشى صور دماغه مع صور الأطلس هو إنسان غير طبيعي أي مريض. وقد كانت الصورة القديمة التي تقول «إن من لا يشبه في سلوكه الآخرين وحاله ماشي هو إنسان طبيعي». وكان هذا التصور (القديم) أكثر إنسانية من التصور المبني على تشابه صور المخ المجردة على المستوى العام، رغم عدم استيعاب ذلك حتى للتصور الأكثر رقياً فيما يخص المبدعين مثلاً، الذين يتفاوت عمل أمخاخهم كثيراً عن المجموع، بينما هم من يقودون المسيرة الظافرة للبشرية!! مما يدفع إلى الحذر من التعميمات.
وأغلب الظن أن الإمعان في درس (لغة) أطلس المخ البشري أو هذا القاموس الجديد سيكشف أنها ليست مصادفة أن يكون هناك معنى مختلف للصورة (الخاصة بنشاط المخ) في السياقات المختلفة، وربما ظهر أن لهذه الصورة تشكيلاً كالتشكيل الذي نعرفه في كلمات اللغة العربية يجعل (المعنى مختلفاً في كل حالة) مثلما يحدث في اللغة الطبيعية. فمعنى (أم) يختلف في (أم البطل) عنها في (هذا الرجل أم ذاك). وأغلب الظن أنه سيظهر للصور الدماغية قواعد للإعلال والإبدال الصرفي، مما يجعل المشوار حتى الوصول إلى معناها الجامع المانع طريقاً طويلاً، وربما مستحيلاً.

pantoprazol 60mg pantoprazol yan etkileri pantoprazol iv
ذو صلة