مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

إبراهيم ناجي: المظلوم حياً وميتاً

في عام 1934 صدرت ثلاثة دواوين لشعراء مصريين هي (الملاح التائه) لعلي محمود طه و(أنفاس محترقة) لمحمود أبو الوفا (وراء الغمام) للشاعر إبراهيم ناجي. فتناول طه حسين هذه الدواوين الثلاثة في مقالاته النقدية التي كان ينشرها في جريدة (الوادي). أما ديوان علي محمود طه فقد ظفر من طه حسين بالثناء المستطاب. وأما ديوان أبي الوفا فقد أنكر عليه طه حسين أن يكون شعراً واعتبره نظماً بل كان يعتذر من عدم الاهتمام به، وأما ديوان إبراهيم ناجي فقد صبّ عليه طه حسين جام غضبه وقال: (إن شعر ناجي أشبه بموسيقى الفرقة منه بهذه الموسيقى الكبرى التي تذهب بك كل مذهب وتهيم بك فيما تعرف وفيما لا تعرف من الأجواء).
وطبيعي أن يغضب الشاعران أبو الوفا وإبراهيم ناجي. أما أبو الوفا فلم يرد على طه حسين بل أثبت مقالته في ذيل ديوانه. ولكن إبراهيم ناجي لم يسكت فرد على طه حسين بقوله: (أنت تراني شاعراً هيّناً ليّناً وليس جباراً، فأنت من أنصار الأدب العنيف الأدب النتشوي -نسبة إلى الفيلسوف الألماني نيتشه- الهتلري).
وما كان من ناجي إلا أن اعتزم طلاق الشعر والأدب بل المجتمع الأدبي كله، وأعلن بلسانه قائلاً: (وداعاً أيها الشعر، وداعاً أيها الفن، وداعاً أيها الفكر، وداعاً ودمعة مرّة وابتسامة أمرّ).
وركب البحر قاصداً إنجلترا فراراً من هذا النقد العنيف الذي تعرض له ديوانه من طه حسين، ولكن لم تطب له الحياة في إنجلترا، حيث أصيب في حادث سيارة وكسرت ساقه، ولم يجد مفراً من العودة إلى مصر ليواصل أداء رسالته. وعندما اقتربت سفينته من ميناء بورسعيد هتف قائلاً:
هتفت وقد بدت مصر لعيني
رفاقي تلك مصر يا رفاقي
أتدفعني وقد هاجت جناحي
وتجذبني وقد شدّت وثاقي
خرجت من الديار أجرّ همّي
وعدت إلى الديار أجرّ ساقي
كانت هذه المرة الأولى التي تعرض فيها الشاعر إبراهيم ناجي للظلم لأنه شاعر شعر كما قال عنه راعي جماعة أبولو الدكتور أحمد زكي أبو شادي.
وعاد ناجي إلى ميدانه الرحب، ميدان الشعر، بل أنشأ معي رابطة الأدباء في عام 1945 واستمرت هذه الرابطة تجتذب الأدباء إلى عام 1952 عندما تعرض ناجي -وأنا أيضاً- لحالة جديدة من الظلم. ففي تلك السنة قامت ثورة الجيش التي رغبت في تطهير الجهاز الحكومي بدءاً بالإذاعة المصرية، فأصدرت قائمة التطهير الأولى متضمنة أسماء: محمد فتحي بك مدير الإذاعة (والمعروف بالكروان) وعلي بك خليل وكيل الإذاعة والشاعر صالح جودت من أركان الإذاعة، ثم الشاعر إبراهيم ناجي. وترتب على قائمة التطهير أن فصل الدكتور ناجي من عمله كمدير للإدارة الطبية بوزارة الأوقاف وأصبح – في عرف الدولة- شخصاً يستحق التطهير، هذا مع أن الدكتور ناجي لم تكن له أي اهتمامات سياسية ولا كان من أركان الإذاعة. وهو ظلم جديد لحق بالشاعر دون أن تعرف له أي حيثيات.
وقد اعتقدت وقتها أن رجال الثورة المصرية لم يكونوا على معرفة سليمة بأمور الأدب والفن، واعتقدت أنهم يقصدون الشاعر محمود حسن إسماعيل، لأنه صاحب ديوان (الملك) كما أنه كان من أركان الإذاعة. وبسبب هذا الخلط، أصيب ناجي في مقتل دون أن يكون له أي ذنب ودون أن تحصى له أي خطيئة.
وبسبب هذا الظلم البيّن، أصيب ناجي باكتئاب لازمه إلى آخر يوم من وفاته، وقد زارني وقتها في مكتبي بجريدة (المقطم) التي كنت أعمل فيها، وأخذ ينتحب بمرارة، وقال لي ما جريرتي حتى يوضع اسمي في قائمة التطهير دون أي مسببات أعاقب بفضلها؟! وقال: إنني أصلاً طبيب وسأتفرغ للطب، ولكن هذه الطعنة النجلاء في ظهري حطمتني تحطيماً. وقال إن كل الناس تعرف عني أنني في عيادتي في حي شبرا الشعبي أستقبل المرضى من الفقراء وأعالجهم دون نظر إلى المادة، بل كنت توافقت مع العلامة نقولا الحداد (مترجم نظرية النسبية وأنت تعرفه خير المعرفة) وكان يمتلك صيدلية أسفل العقار الذي يضم عيادتي، على أن يصرف الأدوية للمرضى الفقراء ويقيد ثمنها على حسابي الخاص.
وانصرف الدكتور ناجي من مكتبي وهو يجرّ قدميه من شدة الحزن بسبب هذا الظلم الذي تعرض له من قبل الدولة دون أيما سبب.
هذه هي المرة الثانية التي عرف فيها ناجي الظلم في حياته.
أما المرة الثالثة التي تعرض فيها ناجي للظلم، ولكن بعد وفاته في 24 مارس 1953 فقد حدثت عندما قررت الدولة أن تطبع المجموعة الكاملة لشعره، وهنا تصدى الشاعر صالح جودت مع زميلين هما أحمد رامي ومحمد ناجي (شقيق الشاعر وكان ضريراً) وأحمد عبدالمقصود هيكل بوصفه ناقداً، وأصدروا ما وصفوه بأنه المجموعة الشعرية الكاملة لناجي. وكان صدور هذه المجموعة فضيحة مجلجلة، إذ تبين أنها ضمت ديواناً كاملاً للشاعر كمال نشأت وبعض قصائد لشعراء آخرين، عدا أنها خلت من كثير من شعر ناجي. وتسببت هذه الفضيحة في دعوى عرضت على المحاكم وانتهت بمصادرة الديوان المعيب.
وكنت وقتها أكتب فصولاً في مجلة (الأديب) اللبنانية، فنشرت سلسلة من المقالات بعنوان (شعر ناجي المضيع) حاولت فيها حصر أكبر عدد من القصائد التي خلا منها الديوان المعيب، وقد استفاد الأديب حسن توفيق من هذه السلسلة عندما نشر المجموعة الكاملة لشعر ناجي.
هذه هي الثالثة في حالات الظلم التي تعرض لها ناجي.
وكان ناجي يأمل أن تقوم أم كلثوم بغناء أي قصيدة له، ولكنها لم تقع على قصيدة (الأطلال) إلا بعد وفاة ناجي، كما غنت له قصيدة وطنية أخرى مطلعها:
أجل، إن ذا يوم لمن يفتدي مصرا
فمصر هي المحراب والجنة الكبرى
وعندما غنت أم كلثوم مقاطع من (الأطلال) ذهب النقاد كل مذهب في محاولة معرفة ملهمة هذه الأطلال، فزعم صالح جودت أن ملهمته واحدة من (الزوزوات) (زوزو نبيل وزوزو حمدي الحكم وزوزو ماضي)، ولكن الملهمة الحقيقية هي جارة ناجي في شبابه عندما كان يقيم في حي شبرا واسمها (عنايات محمود الطوير). ويؤكد ذلك أن ناجي كتب إهداء لديوان (ليالي القاهرة) جاء فيه:
إلى صديقي ع.م. (الذي ندّى الزهر الذابل من خمائل الماضي وأنبت في روض الحاضر زهوراً نديّة مخضلة بالأمل والحياة.. إليك أقدم ما أوحي به إليّ).
وواضح من هذه العبارات أن الدكتور ناجي لم يقصد صديقاً له اسمه ع.م. وإنما يقصد صديقته القديمة عنايات محمود الطوير، وأن عبارات التقديم لا يمكن تفسيرها إلا بأنها تنصرف إلى امرأة وليس إلى رجل، أي أن ناجي كان أيضاً من ضحايا المفسرين لأدبه وهذا ضرب من ضروب الظلم التي أحاقت به في حياته وبعد رحيله.
ترى لو تفرغ الدكتور إبراهيم ناجي للطب وزهد في الشعر والأدب، هل كان يبتلى بهذه الألوان من المظالم في حياته. ورغم كل شيء، فإن الذي بقي من ناجي هو شعره الجميل الذي صاغه من فؤاده وضم تاريخه الأدبي الخالد.
ذو صلة