العديد من الأعمال الأدبية أُسيء فهمها وتقديرها عندما تم تحويلها إلى السينما، هناك رأي يقول إن طبيعة الوسيط ذاته مختلف، فهو يعتمد في بنائه أساساً على الصورة وليس على القصة، السينما كفن جديد لم يُفهم تماماً في حينه – وربما إلى الآن – فالعديد تعاملوا معه على أنه نوع جديد من المسرح، فنقلوا أدواتهم المسرحية إليه كالتمثيل مثلاً، والآخر اعتبره شكلاً يصلح لحكاية الأدب، فالكاميرا تستطيع أن تتنقل بين الأماكن وبشكل أكثر واقعية بعيداً عن خشبة المسرح، الآخر رأى فيه إمكانية جديدة للخداع البصري، فكرس كل وقته أن يقدم من خلاله خدعاً بصرية تطورت مع الزمن لتصل بنا إلى بناء عوالم كاملة عبر الكومبيوتر، عندما تم اختراع التليفزيون، قيل إن السينما انتهت إلى الأبد، ولكن مع ساعات البث غير النهائية، أصبح عدد الساعات المطلوبة كبيرة للغاية، اقتباس العمل الأدبي في السينما، يخنقه ويفرض عليه عدد دقائق محدودة وليخاطب جمهوراً سيدفع تذكرة لقاء المشاهدة، اقتباسه في التليفزيون خلق منه عملاً مترهلاً وطويلاً ومليئاً بالتكرار، والسؤال هو: هل يمكن تقديم اقتباس متماسك دون إخلال أو مطّ؟
مسلسل ميلدرد بيرس نموذج ممتاز على ما الذي يمكن صنعه من اقتباس لعمل أدبي بعيداً عن القواعد والضغوط الإنتاجية، حيث يكون الاقتباس بقدر ما يحتاج العمل، الاقتباس الأول للرواية التي صدرت عام 1941 للروائي (جيمس م كان) والذي تم اقتباس روايات أخرى له إلى السينما أشهرها (ساعي البريد يرن الجرس دائماً مرتين) و(التعويض المزدوج)، كان عام 1945 وقد قام بإخراج الفيلم المخرج مايكل كورتز (مخرج فيلم كازابلانكا) وبطولة (جوان كروفرد) وهو الدور الذي حصلت عنه على أوسكارها الوحيد، قام بكتابة النص السينمائي جيش من كُتّاب السيناريو، رسمياً كتبه (رانالد ماكديجال) ووراءه سبعة من كُتّاب الاستوديو، والغريب أن هذا السيناريو هو الوحيد الذي ترشح عنه للأوسكار، سيناريو الفيلم يختار أن يختلق جريمة قتل غير موجودة في الرواية، ليصنع حالة من التشويق في بداية أحداث الفيلم، وأغلب الظن أن المنتجين وقتها فكروا أن رواية كهذه تتحدث عن أم عزباء في فترة الكساد الكبير تبحث عن عمل لن تكون مشوقة ما لم تتضمن بعض التشويق، وجريمة القتل هذه تستهلك من زمن الفيلم قرابة العشرين دقيقة بالكامل لمجرد أن تبدأ الأحداث الحقيقية، وبقية أحداث الفيلم تُروى بطريقة الـ(فلاش باك) حتى نهاية الفيلم، عانى السيناريو من اختزال مُخل لعلاقة ميلدرد بابنتها فيدا، وهو أحد أهم أسباب قوة العمل الأدبي الأصلي، كما امتلأ الفيلم بالكثير من الجمل الحوارية التي تشرح كل شيء، حتى يتمكن الفيلم من الانتهاء في مدة تقترب من الساعتين.
الاقتباس الجديد ليس مجرد اقتباس أفضل، هو نموذج مثالي على ما يمكن أن يحدث في حال تم اقتباس الأعمال في وسائطها الصحيحة، فإذا كان الفيلم السينمائي غير مقبول تجارياً لأن يمتد لأكثر من ساعتين في الظروف العادية وثلاث ساعات في الأفلام الملحمية الكبرى، فإن الوسيط التليفزيوني برغم كل شيء حقق في هذا المسلسل دليلاً على أنه أكثر سينمائية من الفيلم، ففي حين امتلأ الفيلم بالفلاش باك والحوارات التي لا تنتهي والتي تشرح طبيعة العلاقات والأحداث وكل شيء، حَفل المسلسل بالعديد من المشاهد المذهلة واللحظات السينمائية التي لا تُنسى، ما سمح بذلك هو البناء الدرامي الممتاز لجميع أحداث وشخصيات الرواية، كل جملة وكل مشهد في المسلسل هو من صميم بناء العمل، لن تجد هنا أي مشهد يمكن حذفه ويستمر العمل قدماً دون وجود خلل ما.
من حُسن حظ الرواية أن المخرج (تود هاينز) قرر اقتباسها من جديد، صاحب رائعة (بعيداً عن الجنة) في فترة زمنية مقاربة نسبياً والذي نال أربعة ترشيحات أوسكارية من بطولة (جوليان مور)، ومثلما كتب سيناريو الفيلم، كتب أيضاً سيناريو هذا المسلسل بمعاونة السيناريست (جوناثان ريموند)، وأنتجته HBO وقدم دراما مكثفة دون إخلال لأحداث المسلسل عبر خمس حلقات، بلغت مدة كل حلقة قرابة الساعة، وهذه المرة استعان بـ(كيت وينسلت) لتقدم واحداً من أفضل أداءاتها على الإطلاق، إن لم يكن الأفضل، ولتحوز عنه على جائزة الـ(جولدن جلوب)، بالإضافة إلى أداء ممتاز جداً من (إيفان راشل وود) التي سرقت الأنظار تماماً في أكثر من مشهد في دور ابنتها فيدا.
الحكاية عن ميلدرد بيرس التي انفصلت للتو عن زوجها مطلع ثلاثينيات القرن العشرين وقت الكساد الاقتصادي الكبير الذي حل على الولايات المتحدة، معها الآن ابنتاها وعليها أن تجد طريقة ما لتبقي البيت في حدود المستوى المادي الذي تعوّد عليه الصغار، ميلدرد ابنة الطبقة البسيطة نسبياً والتي أصبحت من الطبقة المتوسطة بعد الزواج، ألفت واعتادت الحياة الكريمة، وبرغم ذلك لا تجد عيباً على الإطلاق في أن تصنع المخبوزات والمعجنات والفطائر في المنزل لتبيعها، خصوصاً مع أزمة زوجها الاقتصادية ضمن أزمة البلد ككل، وهو عمل مقبول اجتماعياً ولكنه لم يعد يفي بسد الاحتياجات الأساسية للمنزل، هنا تتحرك ميلدرد إلى الشارع لتبحث عن وظيفة ما، الوظائف نادرة للغاية، وصاحبة مكتب تشغيل أخبرتها أن لديها أطباء ومهندسين وقانونيين وغيرهم في انتظار فرصة واحدة للعمل ولو كنادل في مطعم، تأتيها فرصتان، واحدة كنادلة لتقدم الشاي ولكن كبرياءها منعها من التقدم للوظيفة، ومع انتهاء الطعام من المنزل تماماً، تقبل أن تذهب لوظيفة مُدبّرة منزل في صراع نفسي عنيف، وللمرة الثانية ترفض الوظيفة، ومع آخر ما تملكه من مال تقبل وظيفة نادلة في مطعم على أن تخفي السر عن ابنتيها، ولكن ابنتها الكبرى فيدا التي لديها الكثير جداً من الكبرياء ربما إلى درجة التعالي حتى على مدينتها جلانديل بأحيائها وسكانها، تكتشف ما تفعله أمها، وهنا يبدأ الصراع الأقوى في العمل، أقوى حتى من الكساد الكبير ومن انهيار الزواج.
هناك مشهد في المسلسل، نسمع فيه صوت الرئيس الأمريكي روزفلت عبر المذياع، وهو يتحدث عن الكساد وضرورة التقشف، وأن الشعب الأمريكي بأكمله يعاني من أزمة راهنة، ونشاهد في نفس المشهد المجتمع الأمريكي المُخملي في النادي يتابع لعبة البولو ويعيش حياة رغيدة، تتابع ميلدرد ما يحدث أمام عينيها وأذنها تلتقط ما يقوله المذياع، ميلدرد نفسها أصبحت تقترب (مادياً) من هذا المجتمع بعد النجاح الساحق لمطعمها الأول، وإن كانت لا تزال بعيدة بخلفيتها الاجتماعية، ولا تعرف إن كان من المفترض أن تشعر بالذنب لأن هناك آخرون يعانون، أم فقط يجب أن تشعر بالسعادة لأنها تجاوزت الأزمة وخلقت لنفسها استثماراً تجارياً ناجحاً، هذا المشهد يُلخّص العديد من الصراعات النفسية التي تعانيها ميلدرد، فهي أساساً لم تخطر فكرة المطعم في بالها سوى بعد مواجهة مع ابنتها حول عملها كنادلة، ميلدرد كذبت لحفظ ماء الوجه أن عملها كنادلة ليس أكثر من مجرد طريقة لتعلم كيفية عمل المطاعم من القاع إلى القمة حتى تفتتح مشروعها الخاص، ولكي تحافظ على هذه الكذبة عملت بكد فعلاً حتى افتتحت المطعم وسط ظروف شديدة القسوة، ميلدرد لا تعرف تماماً إن كانت تفعل ما تفعله لأنها تريده أم فقط لإرضاء ابنتها، في المشهد السابق لمشهد النادي – مشهد افتتاح المطعم – أنكرت ميلدرد أمام ابنتها معرفتها لمونتي، ومونتي هو شخص عرفته في آخر أيام عملها كنادلة ووقعت في غرامه، وفوجئت عند زيارته لها يوم افتتاح مطعمها أنه الرجل الأشهر في المدينة، هي الآن تتساءل هل ستتجاوز ابنتها عن تلك الهفوة، أم أنها لاحظتها جيداً مثلما لاحظت كل أخطائها السابقة، هل ستستخدم هذا الخطأ ككارت إذلال كما حدث عند اكتشاف طبيعة عملها كنادلة مطعم أم لا، في ذات الوقت هي قلقة على فيدا من نمط حياة جديد يقدمه لها مونتي، وميلدرد وحدها تعلم أن مونتي أفلس فهي من تتولى شؤونه المادية، هل لو لم تتمكن ميلدرد من مواكبة نمط العيش هذا، هل ستتنازل عنه فيدا أم لا، تساؤلات لا تنتهي ومشهد عظيم مشحون بشدة على الرغم من أنه يبدو بسيطاً جداً.
سوء الفهم هو ما سيقود بقية أحداث العمل حتى النهاية، ودوافع شخصيات الفيلم تجاه ما يفعلونه وما يشعرون به شديد التركيب والتعقيد، أزمة فيدا الوجودية مثلاً، ليس فقط أن طموحها أعلى كثيراً من مستوى حياتها بالكامل، أزمتها تكمن في رهابها من أن تكون عادية كسكان جلاندفيل، موهبتها كعازفة بيانو لا ترقى لحدود الألمعية أو النبوغ، مثلها مثل الآلاف من (متوسطي الموهبة) التي تمتلئ بها معاهد الفن في العالم أجمع، لهذا السبب – وغيره من الأسباب – تقرر أن تهرب من المدينة بعملية احتيال شديدة الدهاء لتضرب عدة عصافير بحجر واحد، فهي أولاً تنتقم لنفسها وتشبع حاجتها في إيذاء الغير بسبب كراهيتها الشديدة لنفسها، ثانياً ستحصل على المال الوفير الذي سيجعلها تعيش بعيداً عن أمها، ثالثاً لكي تنتقم من أمها شخصياً والتي تعتقد أنها قد أورثتها العادية وقلة الموهبة والمكان الاجتماعي المتواضع والمدينة التي تكرهها، وعلى الرغم من اكتشاف موهبتها الحقيقة لاحقاً وعلى الرغم من أنها أصبحت أشهر شخصية في المدينة، فإنها تعود للانتقام من أمها مرتين وليس مرة واحدة، سوء فهم دوافع ميلدرد هو ما أجج رغبة فيدا في الانتقام، وميلدرد تعبت وأرهقت من أن تبرر تصرفاتها لتلك الطفلة العابسة، ميلدرد حاولت إرضاءها بكل الطرق الممكنة وصرفت كل أموالها عليها، وقبلت أن تختار العديد من الاختيارات المادية الخاطئة، فقط من أجل أن تجعل ابنتها فخورة بها، تلك القرارات الخاطئة التي تسببت في إفلاس ميلدرد في النهاية، لذلك فإنه ومع الضربة الأخيرة التي وجهتها لها فيدا في صميم روحها، لم تملك ميلدرد بداً من أن تحرمها من تلك الموهبة التي هي تعرف جيداً أن حياتها بالكامل متوقفة عليها، في مشهد لا يُنسى وأحد أعظم مشاهد المسلسل على الإطلاق.
السيناريست والمخرج تود هاينز يثبت مرة أخرى عبر هذا العمل بعد عمله الآخر (بعيداً عن الجنة)، أنه يعرف تماماً عما يتحدث، هو عاشق لتلك الفترة من التاريخ، وربما لو تفرغ لها كمشروع فني طويل، فإنه وبلا شك سَيُخرج إلى النور عدداً من الأعمال التي ستجعل الجميع يعيد قراءة مشهد السينما من جديد في تلك الحقبة الثرية جداً على كل المستويات الثقافية والسياسية والاقتصادية من تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.