في سيناريوهاته التليفزيونية الشهيرة، التي ارتبطت عادة بشهر رمضان، يأتي (المشهد الدرامي) لدى المؤلف المصري البارز أسامة أنور عكاشة (1941 - 2010) وثيق الصلة عادة بتقاليد (العُلبة المسرحية) الخفية، التي تحتضنه، وتستوعب أغلبية مفرداته. وهو مشهد تعبيري وإيحائي وتأثيري، غير بعيد أيضاً عن صفوف هؤلاء الجماهير الافتراضيين، الذين يبدون للمؤلف وشركائه في صناعة العمل وكأنهم جالسون على المقاعد لمشاهدة الممثلين ومتابعة الأحداث عن قرب وليس عبر الشاشات. ولربما يتوقع صنّاع العمل بين حين وآخر ردود أفعال هؤلاء المتفرجين إزاء ما يطالعونه، بإبداء الإعجاب أو التصفيق.
إن أهم ما يسم الأداء المسرحي هو انبناؤه على التفاعلية، وارتكازه على استشعار نبض المتلقي لحظة بلحظة طوال مدة العرض، والحرص على إشراكه في الحالة الدرامية المتنامية، لينخرط فيها ويكون جزءاً من نسيجها الأصيل، وليس مجرد مشاهد حيادي سلبي.
وإذا كان أسامة أنور عكاشة هو أحد المطورين التاريخيين الأساسيين للدراما التليفزيونية، في مصر والعالم العربي، بترسيخ خصائصها وحساسيتها الجديدة التي تميزها عن التجليات الدرامية الأخرى، عبر الكاميرا والحركة والصورة وأسلوب الحوار وغير ذلك، فإنه في الوقت نفسه، عن قصد أو عن غير قصد، لم يهدر تلك العلاقة الأصيلة بين الدراما التقليدية و(المسرح)، فهو الوعاء الذي نشأت الدراما فوق خشبته، واستمرت لصيقة به عقوداً طويلة، قبل ظهور أنساق فنية أخرى أكثر مرونة وتحرراً من المواجهة المباشرة مع الجمهور، كالدراما السينمائية والإذاعية والتليفزيونية وغيرها.
وبصفة عامة، فإن تعدد الصيغ الدرامية لا ينفي تشابه هذه الصيغ مع بعضها البعض، واشتراكها في القاسم الأكبر من العناصر والأبجديات الدرامية المحورية (الفكرة، الحبكة، الصراع، الشخصيات، تصاعد الأحداث، إلخ)، وهي العناصر المستقاة من تعريف أرسطو الأولي للدراما كفن لمحاكاة الفعل الإنساني، ليس بمعنى التصوير الميكانيكي للواقع بطبيعة الحال أو نقل مواقف الحياة حرفيّاً، وإنما بمعنى تمثيل الوقائع ومحاكاة ما يمكن أن يحدث، وفق منظومة تخييلية وإبداعية منضبطة، تستثير الدهشة، وتراهن في جوانبها على غير المتوقع. وتحت مظلة المسرح التفاعلي، نضجت الدراما بأوجهها المتباينة، الكوميدية، والمأساوية، والموسيقية، وغيرها، كحكاية شيقة متكاملة، يؤديها ممثلون يتحاورون ويتصارعون أمام الجمهور.
لم يعد المسرح هو المجال الوحيد لهذا التجسيد الدرامي بطريقة المواجهة المباشرة، وصارت هناك في السينما والتليفزيون والإذاعة مساحات واسعة لإعادة التسجيل وتدارك الأخطاء وعمل المونتاج والتحكم في المؤثرات الموسيقية والصوتية وغير ذلك من الإجراءات والتدخلات والخلطات التي تسمح بمعالجات فنية وتصورات مختلفة عن الدراما المسرحية النمطية. لكن على الرغم من ذلك، ظلت الدراما التليفزيونية في بعض حالاتها وجوانبها، كما في أعمال أسامة أنور عكاشة، تستوحي الكثير من آليات العلبة المسرحية وتمثلاتها وتمظهراتها وركائزها الضرورية.
بداية، فإن نظرية الفن ذاتها لدى أسامة أنور عكاشة نابعة من فكرة الجمهور الحاضر المنتظر، ومنحه رسالة ومضية مباغتة، ورد الفعل اللحظي القريب المأمول إحداثه لدى الجمهور من خلال التواصل المفتوح معه. بمعنى أن الدور الاجتماعي للفن يأتي بالتوازي مع الجماليات الصافية والفنيات المجردة والإمتاع القائم بذاته.
وربما تكون الأسبقية لهذا الحضور الاجتماعي، المنبري أو الخطابي بالتعبير المسرحي، إلى درجة تقترب من التوجيه والإرشاد وتصل في بعض الأحوال إلى التلقين والتعليم والحصة الأخلاقية، كما في (وما زال النيل يجري)، (رحلة أبو العلا البشري)، (ضمير أبلة حكمت)، (عصفور النار)، (الراية البيضا)، وغيرها.
وإن لم يكن العمل برمته يسير في هذا الاتجاه، فمن المؤكد أنه يحتوي على شخصيات تمارس هذه المهام الفوقية بأدائها المسرحي المبالغ فيه في بعض المواقف والمشاهد (من أجل الوصول إلى المتفرج الجالس في الصف الأخير)، بغض النظر عن الأهلية الثقافية والتعليمية لهذه الشخصيات لكي تلعب هذا الدور الوعظي، ولكي توجه النصائح للآخرين على طول الخط، كشخصية (فرج) الترزي في مسلسل (الحب وأشياء أخرى)، على سبيل المثال، الذي كان يقوّم أخطاء الموسيقار المثقف (سامح) شقيق زوجته، ويدله على القرارات الصائبة في شؤون الحياة المختلفة وامتحاناتها الصعبة.
نقطة أخرى تدعم هذه النزعة المسرحية الواضحة في أعمال أسامة أنور عكاشة، هي موضع مؤلف النص بالنسبة إلى فريق العمل ككل، وإلى بقية مكونات العمل، حال عرضه. ففي الدراما المسرحية، يكون عنصر التأليف المسرحي هو الأكثر رسوخاً واستقراراً ومركزية وثباتاً، حتى إذا تعددت المعالجات الإخراجية والتصميمية والتمثيلية وغيرها من العناصر. بينما في الدراما التليفزيونية، فإن الهيمنة لا تتجلى بهذا الوضوح لكاتب السيناريو وللنص المكتوب، الذي ينصهر مع بقية مفردات العمل، وقد لا يكون هناك مؤلف أو (دراماتورج) بعينه إذ جرت الكتابة في ورشة عمل جماعية. لكن تظل نصوص أسامة أنور عكاشة التليفزيونية هي أبرز ما في تلك الأعمال عند تصويرها وعرضها، ما يعكس تلك الخلفية المسرحية الواضحة، بعناصرها الراسخة المعروفة، الثيمة، الشخصيات، الحبكة، الحوار، الصراع، الإيقاع، وغيرها.
إن ارتياد أسامة أنور عكاشة حقل الدراما التليفزيونية بإهاب المؤلف المسرحي، الذي يحمل بداخله أيضاً مشروع روائي وكاتب قصة قصيرة، يجعل بؤرة الضوء الأكثر كثافة تنصب في أعماله على الكلمة الحوارية في المقام الأول، بكل ما لها من قيمة، وما عليها من مآخذ في الآن ذاته.
من المؤكد أن هذه المنطلقات تقربه من القضية بقدر ما تقربه من الجمهور، فهو في تحريكه أشخاصاً وإثارته لواعج فردية وعلاقات أسرية وعائلية، يمس عادة الشأن العام والضمير الجمعي الوطني والأزمات المجتمعية الكبرى والهم الإنساني، ويتسع لديه المشهد المسرحي الدرامي برموزه وإسقاطاته ليشتمل على مسائل عميقة مثل تساؤلات الهوية والاستقلال والحرية، والبحث عن معنى الوجود، ومفهوم العدالة والمساواة، ومثل هذه القيم العليا، كما في (أرابيسك)، (عصفور النار)، (زيزينيا)، (امرأة من زمن الحب)، (أحلام في البوابة)، (ليالي الحلمية)، (المصراوية)، وغيرها.
وقد تدفعه الرغبة في إبراز هذا الصراع على نحو أكثر وضوحاً وأكثر دغدغة لجمهور المسرح الافتراضي، إلى انتهاج (الدون كيشوتية) كفكرة لبناء العمل بأكمله، حيث يظهر البطل الفارس الذي لا يخطئ، ليواجه الشر المطلق والشياطين، أو يحارب طواحين الهواء، وسط تصفيق الحضور وافتتانهم بطبيعة الحال، كما في (رحلة أبو العلا البشري)، (ضمير أبلة حكمت)، (الراية البيضا)، (امرأة من زمن الحب)، وغيرها من المسلسلات.
إن الأمانة تقتضي الالتفات إلى هذه الأعمال التأسيسية في مسيرة الدراما التليفزيونية المصرية والعربية في سياقها التاريخي وإطارها المرحلي، وهذا ما يجعل كادراتها المسرحية بما فيها ما ديالوجات ومونولوجات مطوّلة ونبرات جهورية وسعي إلى تمرير مضمون (مقنع) للمتلقي أمراً طبيعيّاً ومستساغاً في ذلك التوقيت، إلى جانب تكرار الشخصيات وتنميطها في هذه الأعمال على نحو ما (القهوجي المعبر عن النموذج الشعبي مثلاً)، وشحنها أحياناً بحمولات معرفية وبيانية فوق مستوى صدقها الفني، وربما تماهيها في معتقداتها وآرائها ومواقفها الحماسية، المبررة وغير المبررة، مع المؤلف ذاته، ذي الميول الناصرية والنظرة المعادية للسياسات المصرية في عهد الانفتاح السبعيني وما بعده من تحولات.
إن مثل هذه الإشارات جميعاً، وغيرها، لا تستدعي التوقف طويلاً، قياساً بالمنجز الأهم الذي قدمه أسامة أنور عكاشة في رواياته التليفزيونية (مثلما كان يسميها)، ومن بين السمات الفريدة لهذا المنجز: تقعيد البناء الدرامي المتنامي بإحكام ومعقولية، والمهارة الفائقة في إنتاج فن حواري متماسك جاذب بعمقه وشعريته، والرؤية البانورامية الشاملة للخريطة البشرية للمجتمع المصري خلال قرن كامل من المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والقدرة على التقصي الدقيق لتفاصيل العلاقات المتشابكة بين البشر، ومصائرهم المتفاوتة، عبر سلسلة من الأجيال المتتالية، في أناة واصطبار، وغيرها من خصائص التوليفة الزاخمة المتميزة لكتابات أسامة أنور عكاشة الناضجة والواعية والممتعة، والمتفوقة فنيّاً ومعرفياً بالقياس إلى ما كانت تفرزه الدراما التليفزيونية المصرية والعربية في الربع الأخير من القرن الماضي.