مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

الحج قبل الإسلام

عرف الإنسان الخالق بالفطرة وحاول التقرب إليه بوسائل متعددة منذ الخليقة. ونعتقد أن تفكّر الإنسان بنفسه وبما حاوله والمظاهر الطبيعية التي عايشها إضافة لعدم معرفته بمصيره بعد الموت جعله يقف حائراً بما هو فاعل حيال هذه المسائل مجتمعة.
كذلك وجد نفسه على الدوام، أو في حالات كثيرة، أنه ضعيف وبحاجة إلى قوة تحميه فكان لا بد إلاّ أن يتقرب إليها لينال رضاها. ففي العهود الحياتية الأولى، أي عندما كان الإنسان متنقلاً وجامعاً للقوت قبل ملايين السنين تهددته أخطار كثيرة، خصوصاً من الحيوانات المفترسة وحتى يحمي نفسه منها رسمها على جدران الكهوف، ربما تزلفاً لها وإبعاداً لشرها عنه. وعندما استقر الإنسان قبل حوالي عشرة آلاف عام، وربما أكثر، في مكان واحد، وبنى قرية له، واعتمد الزراعة كواحدة من المظاهر الاقتصادية وسيلة للعيش، وجد أن المنتج يعتمد على مظاهر الطبيعة من مطر ورعد وبرق، فخصص لكل مظهر من هذه المظاهر الطبيعية إلهاً حاول التقرب إليه، والتواصل معه من خلال بناء التماثيل، والمزارات والمباني العقائدية، وربما أماكن للحج. وكانت هذه الآلهة ذكرية وأنثوية، خصوصاً أنه وجد أن المرأة هي الأصل في استمرارية الوجود. لكن المشكلة في فترات ما قبل التدوين (أي قبل معرفة الكتابة) أننا نفتقد للمعلومات المكتوبة، ونعتمد على التفسيرات الأثرية لعدد من المباني واللقى التي يصفها المنقبون بأن لها علاقة بالتعبد والمعبود. لكن، اختلف الحال في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد، أي بعد أن عرف الناس في بلاد الرافدين ووادي النيل الكتابة حيث عرفنا أسماء الآلهة ومعابدها وأماكن الحج فيها. فظاهرة الحج، باعتقادنا أنها متصلة منذ تفكر الإنسان بوجود إله وحتى للحاضر. ويمكننا تعريف الحج على أنه القيام بزيارة الأماكن المقدسة في أوقات معينة من العام بهدف التقرب إلى الإله/الآلهة صاحب المكانة المقدسة عند زائريه. ووردت كلمة (حج) في معظم إن لم يكن جميع اللغات السامية، وفي الكتب الدينية السماوية.
اعتقد سكان الجزيرة العربية أن للآلهة بيوتاً تسكن إليها، أطلق عليها اسم (بيوت الله)، فشدّ الناس الرحال إليها للتبرك والتقرب من ساكني هذه البيوت. وبطبيعة الحال، يكون للحج مناسك وشعائر دينية، منها الأدعية والتوسل للآلهة بقبول حجهم وقبول طلباتهم. وسمي الشهر الذي يتم فيه الحج، حتى في فترة ما قبل الإسلام، باسم (ذي الحجة)، وكتب بالكتابات المسندية (العربية الجنوبية) باسم (ذ حجنن)، وهو من الأشهر الحرم. وكانت العرب لا تحج إلى مكة وحدها، فقد أورد الإخباريون وبعضاً من المستشرقين إلى تعدد بيوت الأرباب التي حجت إليها العرب، ومنها (بيت اللات) في الطائف، و(بيت العزى) على مقربة من عرفات، وبيت مناة وبيت نجران. وعُدّت أيام الحج أنها تُدخل الفرح والسرور على أنفس الحجاج والآلهة، واقترنت هذه الاحتفالات بذبح الحيوانات. ويبدو أن مناسك الحج لم تكن واحدة عند جميع القبائل العربية، بل إن بعض القبائل لم تؤمن بالحج وكذلك بأن شهر ذي الحجة شهر حرام.
وكان الحج عند العرب قبل الإسلام يبدأ بالتهليل عند أصنامهم، والتلبية إليها، فإذا انتهوا من ذلك جاؤوا إلى مكة. وكان لكل قبيلة تلبية خاصة بها، كما ويذكر ابن الكلبي في كتاب الأصنام أن قبيلة نزار كانت تقول إذا ما أهلت:
(لبيك اللهمَّ! لبيك!
لبيك! لا شريك لك! إلاّ شريك هو لك
تملكه وما ملك!)
وعند وصول وفود الحجيج إلى البيت الحرام في مكة كانوا يطوفون حول الكعبة، إذ أن الطواف كان ركناً من أركان الحج. وكان العرب قبل الإسلام يعدّون الطواف من أهم طرق التعبد والتقرب للآلهة، وليس له وقت محدد، ولا يختص بمعبد معين، بل يقومون به كلما دخلوا معبداً فيه صنم، أو كعبة أو ضريح، وطافوا حول الأنصاب. وكانوا يطوفون سبعة أشواط حول الكعبة والأضرحة والذبائح التي تقدم للآلهة. وكان الطائفون بالبيت إما عراة وعرفوا باسم (الحلة)، أو بثيابهم وعرفوا باسم (الحمس)، وأضاف بعض الإخباريين صنفاً ثالثاً أسموه (الطلس) وهم بين (الحلة) و(الحمس) وكانوا لا يتعرّون لكنهم يفعلون في إحرامهم ما يفعله (الحلة) وهم في الغالب من سائر أهل اليمن. ويعتقد أن سبب خلع (الحلة) لثيابهم هو التخلص من ذنوبهم التي عملوها وهم مرتدينها، وأنهم لا يتعبدون لله في ثياب أذنبوا فيها.
وكان من مناسك الحج عند قريش الطواف بالصفا والمروة، وعليهما صنمان: أساف بالصفا ونائلة بالمروة، وطوافهما سبعة أشواط. وكان أهل مكة يتبركون بلمس الحجر الأسود ومن ثم يسعون بين الصفا والمروة. وكان من مناسك الحج أيضاً الوقوف في اليوم التاسع من ذي الحجة بعرفة، ومن هناك تكون الإفاضة إلى (المزدلفة)، وعند طلوع شمس اليوم العاشر من ذي الحجة يفيضون من المزدلفة إلى (منى) لرمي الجمرات ونحر الأضاحي. ومواضع الجمرات في فترات قبل الإسلام متعددة، ويطاف حولها، ومنها مواضع أصنام، وأماكن مقدسة، وقبور أجداد. ولا يحلُّ للحجاج حلق شعورهم أو تقصيرها، وإلاّ بطلت حجتهم، وكان من عادات بعض القبائل أنهم لا يحلقون رؤوسهم إلاّ عند أصنامهم. وكان الحجاج يغادرون (منى) في اليوم العاشر من ذي الحجة، وبهذا يكون الحجاج قد أكملوا حجهم.

ذو صلة