مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

الحج في العصر الجاهلي.. مدخل أدبي

بأي المداخل يمكن للدارس أن يُقارب قضية الحج، وهي المتجذرة في الفكر العربي منذ العصور السابقة لظهور الإسلام، ذلك أن البحث فيها وفي تاريخها يعود بنا إلى جذور ضاربة في القدم تضعنا أمام حيرة البدايات، فمن أي فترة في وسعنا أن نبدأ مرحلة التأصيل لهذا المصطلح وهو المرتبط بالتاريخ الإنساني برباط وثيق؟

ولعل ما يزيد من حيرة السؤال أن مفهوم الحج مفهوم متشعب متداخل مع العديد من المجالات مثل العقدي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي... فقد بدأ الحج فعلاً دورياً متكرراً يؤتيه الإنسان في فترات متعارف عليها من كل سنة، ومناسبة تنتظرها الشعوب من أجل تحقيق غايات متعددة. وإذا كنا نقر بأن شعيرة الحج تتجاوز الديانة الإسلامية والثقافة العربية عموماً لتحول إلى فعل جامع يحتاجُ البحث فيه إلى دراسات مختصة ومعمقة، فإننا سنحاول النظر في هذا الركن في فترة زمنية محددة (ما قبل الإسلام) وفي حضارة بعينها هي الحضارة العربية الإسلامية، ومدى تأثير هذه الظاهرة الدينية في التأسيس لثقافة أدبية متصلة.
تتفق جميع الدراسات التاريخية على عقد الصلة بين فعل الحج ومناطق جغرافية متعددة لعل من أبرزها مدينة مكة -بما تحمله من رمزيات ومكانة عند العرب على امتداد العصور- فقد كان طواف العرب في الجاهلية بالكعبة ركناً قاراً لا تمام للحج دونه، وذلك بعد أن تحاط كامل مداخل المدينة بالأصنام من كل جهة. ورغم هذه الكثرة فإننا نقر بوجود أسماء حفرت في الذاكرة حتى ارتبط اسمها بعرب الجاهلية مثل: (مناف/ شمس) وبسبب من ذلك سميت قريش بعبد مناف وعبد شمس، وغيرها من التسميات التي ذكرت في كتب التاريخ والدين، ونشدد في هذا الإطار على ملاحظتين في غاية من الأهمية أن هذه التصنيفات والتسميات لعرب الجاهلية إنما جاءت لتأكيد التراتبية والطبقية التي كانت سائدة في تلك الفترة بين السيد والعبد، إذ لا يحق للثاني أن يمارس طقوس الحج مثل الأول، فهو الخادم والمأمور بتلبية حاجيات سيده. أما الملاحظة الثانية فمتصلة أساساً بالحركية التجارية التي كانت تشهدها مدينة مكة قبل الإسلام حيث تقام أسواق للآلهة وتزدهر عمليات المبادلات والبيع والشراء.
إن ما يجعل من الحج ظاهرة فريدة عند عرب الجاهلية هو ما يتبع هذه الأيام من طقوس مصاحبة، إذ تتعدد الروايات على ألسنة المؤرخين حتى امتزجت في أحايين كثيرة مع الغريب والخرافي والمفارق، فقد كان الحجيج يطوفون عراة وفق تقسيم زمني محدد يُراعى فيه شرط الفصل بين النساء والرجال مرة أو يؤتون هذا الفعل وأجسادهم مخضبة بالدماء تكفيراً لذنوبهم وطلباً للمغفرة مرة أخرى، كل هذه الأخبار التي تناقلتها سير التاريخ تبقى أرضية خصبة لنشأة حركة أدبية موازية حاولت استثمار هذا التواشُج بين الديني (بسلطته العقائدية) والأدبي (بسلطته الثقافية الفنية) فأنتجت سيراً وحكايا ظلت خالدة في التاريخ، بل وعلامة من علاماته، وليس أدل على ذلك من رواية آساف ونائلة وعدم احترامهما لخصوصية وقدسية هذا الفضاء المكي فأبعداه -ومن خلفه شعيرة الحج- عن منزلته وقداسته، وكأن ذلك كان إعلاناً صريحاً على تبرير فعل المسخ الوارد في الرواية. أو ما جاء ذكره في الأشعار العربية حتى في فترة لاحقة للإسلام، ولعلنا نفهم هذه العلاقة في سياقها الأدبي إذ تم استغلال هذا الثقل الديني والجغرافي لمدينة مكة من أجل تحقيق غايات مرجعية كأن يصبح للحكاية سندها الواقعي ووجودها الفعلي من أجل إعطاء مصداقية لأحداث تبدو غريبة وما هي بغريبة في حقيقة الأمر ذلك أن الطبيعة الجاهلية كانت تُبيح أشياء وممارسات غريبة في طقس مقدس مثل الحج.
يمكن القول استئناساً بهذه القراءة بأن شعيرة الحج في الفترة الجاهلية كانت تحمل أبعاداً دينية مثل التوبة وطلب الغفران والصفح والتقرب في ظاهرها، ولكنها كانت محملة بممارسات غريبة تذهب في الكثير من الأحيان بالإنسان إلى طبيعته الوحشية واللاآدمية، وهذا هو مجال اشتغال الأدب في لحظة رصده للظواهر الخيالية واستثمارها من أجل التأسيس لنص إبداعي مبني على المفارق والعجيب.

ذو صلة