مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

الاختيار

تنهد بصوت متحشرج مثل ترس سيارة قديم وهو يمعن النظر في صورة ابنه الذي استشهد برصاصات الغدر في سيناء. ثم تأملها أكثر وأكثر بعاطفة أبوية لا تقدر بثمن وبدموع أب كان يراه السند وبهجة العمر وخطفه قراصنة الدجل والمؤامرات في ساعات خدمته العسكرية دون ذنب. وكأن الساعة توقفت عقاربها من ساعة استشهاده منذ أعوام ليست ببعيدة. لكنه الابن ومصر الغالية. تحركت في أعماقه رغبة أديب يكتب سيناريو داخلي لواقع ما بعد يناير 25 وهو يديم النظر إلى شاشة التلفزيون بعدما ألقى السلام على صورة ابنه الشهيد التي تتوسط صالة البيت العريق. لم يكتمل عمره الخامسة والعشرين حولاً وظل يرى بقلبه مشاعر من يتحدث إلى وطن وليس جماعة وهو يبث كل مشاعر الطمأنينة بصوته الأبوي الذي حول الحزن إلى سعادة داخل قلبه المكلوم.
والقسم يعلو كل هاماته المؤمنة بالأرض وكبريائها الذي جعل منها خير الأوطان. خير إجناد الأرض اه اه اه.
المحروسة التي احتضنت كل من جاءها حبيباً وابناً غالياً. المحروسة التي طردت كل غزاة زمن وأزمان بثبات وعقيدة صنعتها يد الخير والدفاع عن الوطن. الدفاع عن الحق والرغبة الدائمة في السلام.
تبدلت مشاعره الحزينة إلى مشاعر يملؤها الأمل مع كلمات ابنه البار الذي يرتدي زي الأبطال في نداءاته التي امتزجت فيها كل صور القوة والتواضع.
ليقف الأب المكلوم رشدي سالم كشاب حديث العهد بالحياة والعمل وهو يشعر في أعماقه بالرغبة الدائمة في تقديم كل ما لديه من خبرات اكتسبها من عمله كمهندس طرق وكباري للمشاركة مع شباب الوطن وهو يتلو بعضاً من سور القرآن الكريم رحمة على ابنه الضابط الشهيد وكل شهداء مصر المؤمنة بقدرها. ومع كل نداءاته الأبوية رسالة لكل أب وأم استشهد أبناؤهم أن يمنحوا الوطن كل ما لديهم من ثروات. وأعظم ثروات الوطن أبناؤه. وقت المحن فالوطن هو الكيان والسند والبقاء بلا موت.
ومع ساعات النهار الطويلة كان يقضي المهندس رشدي سالم بعضاً من تلك الساعات في مواساة كل من فقدوا أبناءهم على أيدي الغدر والكراهية لكل من يدافع عن عرضه عن الأرض الطاهرة التي جاءها كل أنبياء السلام.
وقبل أن يدلف إلى سريره كعادته بعد تناول الغداء مع زوجته طيبة القلب عزة هانم المؤمنة بقدر ربها. يلقي بنظراته الأبوية على صورة ابنه الشهيد برغبة دائمة في التأكيد له بأن دمه لم يذهب سدى.
ولحظة الاختيار هي الأصدق لكونها هبة من خالق عظيم هي التي ترجمت كل ما نراه بعين الحقيقة لا بعين اللئام.

ذو صلة