مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

سيرة علي جعفر العلاق.. (إلى أين أيتها القصيدة؟)

السيرة تقنية سردية وآلية فنية، أكثر من كونها نوعاً خالصاً. ويبدو أن التوسع في أشكال كتابة السير، وتعدد طرائق بنائها السردية؛ يرتبط بجملة تحولات أخرى تعايشها ذات المبدع، فهو لا يختار لغة سيرته معلقة في الفراغ، وإنما في سياق ثقافي واجتماعي دائم التغير، ومن ثم نجده يتصرف في سيرته وفق هذا السياق، ووفق ما هو مستحدث أو مألوف من الأساليب والتكنيكات، سواء أكانت محلية أو وافدة، ويوظفها بطريقته الخاصة، ولنا في طرائق اشتغال الخطاب السيري في سيرة الشاعر العراقي علي جعفر العلاق (إلى أين أيتها القصيدة؟ سيرة ذاتية) مثال بارز على ذلك، حيث يتداخل الشعري مع السرد السيرذاتي، بصورة لافتة، لا تقوم على مجرد التجاور بين الأنواع، بل تداخلها وتكاملها، حتى بدت الذات الساردة أنها لا تتمظهر إلا من خلال الشعر لغة وشكلاً ونوعاً.

العنونة
بدءاً من السؤال المفخخ (إلى أين أيتها القصيدة؟ سيرة ذاتية) الذي تحمل السيرة عنوانه يتم كسر أفق التوقع القرائي وكسر الميثاق السيري المعتاد من خلال الانزياح عنه زمانياً وتراتبياً وتفكيكه وبناؤه بصورة مغايرة، فالعتبات رغم إشارتها إلى النوع الأدبي (سيرة ذاتية) لكنها لا تخلص لها فتحيلها إلى مقاطع، وتخرج السيرة من التعريف إلى التنكير، ولا يتوقف دور التنكير على تأكيد الفصل بين الذات المتلفظة والذات الكائنة داخل النص؛ لكنه يؤشر على فعل الانزياح والانتصار للجمالي على الموضوعي، والإنشائي على الخبر، والحادثة على الواقعة.
إن العنوان بجزءيه يحمل ميثاقاً سردياً لا يؤشر إلى سرد ذاتي، بل يؤشر إلى نوع أدبي وهيئة سردية شعرية يتم تأكيدها مع بداية السرد من خلال السرد بضمير المتكلم، لندخل تحت لواء السرد السير ذاتي، من خلال العنوانين الرئيس والفرعي يحققان ما يعرف بالكفاءة الأجناسية، حيث يسهم تحديد جنس الخطاب في تحقيق التواصل مع المتلقي، فمعرفة جنس الخطاب الذي ينتمي إليه الملفوظ يساعدنا على أن ندرك منزلته من سائر الملفوظات ومختلف الأجناس التي تردّ إليها، فيوفر معالم الطريق التي عليه أن يسير على هديها للوصول إلى المعنى، بل وتحدد له الأطر الموجهة لعملية التلقي وضمانة لعملية الفهم. يجمع العنوان بين الشعري والسير ذاتي من خلال تشخيص القصيدة ومساءلتها، لتظهر القصيدة بوصفها الذات الأخرى أو الذات المنبثقة من الذات المتكلمة، فتستطيع أن تضع بدلاً من القصيدة (الذات، النفس، الحياة)، وإلى جوار العنوان الرئيس تقف عنوانات الفصول بلغتها المجازية المعبرة عن وعي الذات الساردة التي لا تنفصل عنها شقيقتها الشاعرة بحال.

الوقوف على الأعراف
لا يتوقف حضور الشعر عند حضوره المباشر في صورة تناصات أو مقاطع داخل السرد، أحياناً لتوقفه أو تصل به إلى ذروة، أو تأتي كاستراحة من سرد تضمخ بالحنين، ووصل لمنطقة لا يسعف السرد فيها غير الشعر لاكتناه الحال، واعتصار التجربة بكل مكنوناته من خلال الشعر الذي يبدو كجوهر يمسك بتلابيب الموقف من الضياع، ويمكن القول إن تسرب الروح الشعرية إلى سرد السير ذاتي برز من خلال مسارات ثلاثة: إما تشعير السرد من خلال ضخ مجازات وأنسنة لموجودات بمعدلات لا توقف السرد بقدر ما تضمخه بالمشاعر التي تعتري السارد، ويبرز ذلك في الذرى السردية، مثل أول لقاء بالمدينة أو وفاة الأب أو احتراق الأخت، أما المسار الثاني فهو الاستعانة بالإنتاج الشعري للتعبير عن تلك الذرى أو تكثيفها شعرياً، وهو في هذا المسار أيضاً عينه على المتلقي، أما المسار الأخير فيأتي من الاقتباسات الشعرية القديمة والجديدة التي تبرز كأدلة وشواهد على رؤيته، أو تأكيد امتداد الحالة الموصوفة وديمومتها، ففي رؤية العلاق أن اللغة السردية بتقريريتها لن تقدم كل أبعاد التجربة، إلا بتضفيرها في لغة مشحونة بالعاطفة، إيماناً بقوة الشعر وقدرته على كسر النسق التقليدي للسرد، ومخاتلة النوع ليقف على الأعراف بين الإخباري والوصفي من جهة والإنشائي والبلاغي من جهة أخرى، ويحمل الالتفات إلى الشعر في كثير من نماذجه هذه القدرة على الإنجاز، فهي بمثابة أداء لغوي يعبر عن الذات المسرودة من ناحية والذات الساردة من ناحية أخرى، ومن هنا كان حضوره فعلاً كلامياً منجزاً في لحظته ينتمي إلى الخطاب أكثر من انتمائه للقصة.

التضمين
تبرز روح الشعر من خلال المقاطع الوصفية المليئة بالمجازات والتي تعتمد على الخيال كأداة رئيسة في تصوير المشاهد إلى جوار تسريدها، ولا يعنيها من الحدث إلا بوصفه بؤرة دالة تسترجعها الذات بكل جوانحها، فهو يسترجع وفاة أبيه، لكنه من جهة أخرى يصف المشهد، ثم يبرز حضور هذا الأب في قصائده عبر مسيرته الشعرية، لتتسع الدوائر وتشحذ الذات مكنوناتها، ثم تتوقف عند الشعر باعتباره المحطة الأخيرة والأثيرة القادرة على التعبير، ونادراً ما يجيء الشعر سابقاً على السرد المتاخم له، حدث ذلك في حكيه عن أخته التي توفيت محترقة، فقد بدأ بالشعر ثم تلاه بسرد الحادثة ووصفها، في هذا الإطار تندفع الذات الساردة في الحديث عن الشعر، الذي يرتبط بواقع الشاعر، فهو نفسه أو ذاته الأخرى التي تتشكل وتبنى مع الذات، من خلال محفزات الشعر من أمكنة وشخوص ومواقف وأحداث، فهو يقدم الأطر التي تتشكل فيها القصيدة وتبني واقعها الخاص المفارق. هذه القصيدة التي تنبثق من الواقع ولا تقوم بمحاكاته توازي الحادثة بآنيته وتتجاوزها بخصوصيتها، لتصبح سيرته الذاتية هي سيرة قصائده وكتابتها.
وتتجاوز فاعلية الشعر في سيرة العلاق مجرد الحضور التزييني أو البلاغي الذي يعطي السيرة بعداً شعرياً يرتبط بطبيعة الذات الساردة والتي تسترجع مسيرتها مع الشعر، وتتجاوز ذلك إلى فاعلية أخرى، ترتبط بتصاعد السرد وانفتاح السرد على مصراعيه أمام فاعلية الشعرة وقدرته عن اكتناز الحدث بطريقة مغايرة، فالشعر المضمخ بالذكريات حول أمكنة الشاعر ومحطاته وارتحالاته، استدعت أن يطل إلى ماضيه من زاوية أخرى أو قل تبئير الحدث من منظور الذات الشاعرة، كما تم بلورتها من منظور الذات الساردة، فالشعر يمثل فيما يمثل ختام سلسلة من الأحداث المسترجعة التي ترتبط بحياة الشاعر وماضيه. كما إنه يبرز من خلال استرجاع مقاطع بعينها مدى اشتباك تجربته بالواقع وارتباطه بأرضه، يضاف إلى ذلك إبراز هوية الذات من خلال أوضح معالمها وخصائصها المشكلة لهويتها.

كسر التتابع السردي
إن الوعي الذاتي بمثابة مصفاة لا تمرر إلا ما يريده، ويقوم بعمليات حذف وانتقاء واستبعاد واسترجاع وفقاً لمنظوره الذاتي، ووضع التجارب في إطار سردي يقتضي خضوعها لمتطلبات السرد والتخييل معاً، ولا يتوقف الأمر على فرض السرد وطبيعته على التجربة وتحويرها وإعادة بنائها بناءً فنياً، بل إن الأمر يرتبط أيضاً بإكراهات الكتابة التي تفارق زمنياً التجربة، حيث يكون الوعي أثناء الكتابة مغايراً للوعي المعايش لها، وهو ما يتيح تقلبات زمنية واسترجاعات واستباقات متنوعة وفقاً لزمن الكتابة وإكراهاتها، وهكذا نجد أن عملية الانتقاء واعتماده على الكتابة الشذرية تمثل حجر الزاوية في بناء سيرة العلاق، ومن خلال الانتقاء والتشذير تتمظهر رؤية الذات للعالم وموقفها منه، ونتبين أثر الشعر معنى ومبنى داخل النص وفي حياة الشاعر.

ذو صلة