كانت سيمون دو بوفوار الكاتبة الأكثر شهرة وحضوراً على المستوى العالمي بين الكاتبات الفرنسيات خلال القرن العشرين، فهي أستاذة الجيل كما لقبت، وملهمة الحركة النسوية والمدافعة الشرسة عن قضايا المرأة وتحررها وحقوق المضطهدين، لم تكن شهرتها بسبب علاقتها الإشكالية مع فيلسوف الوجودية جان بول سارتر، وإنما بسبب أفكارها ومواقفها التي ضمنتها العديد من المؤلفات التي ستلهم الأجيال على مدى عقود طويلة، فمن هي سيمون دو بوفوار الفيلسوفة الوجودية ورفيقة درب سارتر؟
حياة سيمون دو بوفوار
في الساعة الرابعة من فجر التاسع من شهر كانون الثاني يناير 1908 في باريس، وفي غرفة ذات أثاث أبيض ستولد لأسرة ميسورة الحال، الفتاة التي ستتمرد على كل التقاليد التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وتصبح اسماً لامعاً في تاريخ الفلسفة، بعد أن كانت المرأة بعيدة عن تلك المجالات ومهمشة لدرجة لم يسمح لها أن تتصدر المرتبة الأولى في الجامعة التي ذهبت إلى جان بول سارتر، الفيلسوف الذي ستربطها به علاقة مختلفة عن كل العلاقات التي مرّ بها كل منهما، وهي التي ستحتفظ بذكراه بعد وفاته، ويظل مدار حديثها الدائم في السنوات الست التي عاشتها بعد رحيله، وعنه ستكتب (مراسم الوداع) الكتاب الوحيد الذي لن يقرأه كما تشير في مقدمته.
في أسرة برجوازية تلقت تربية كاثوليكية تقليدية من والدتها التي أعطتها تربية دينية حازمة وشعوراً بالواجب، ستفجر في داخلها ثورة عارمة كما تقول في مذكراتها على أوضاع المرأة، بدءاً من البيت حيث كانت تتبرم من مطالبتها بالقيام ببعض المهام المنزلية التي اعتبرت حصرها بالمرأة دون الرجل هو شكل من الإذلال الذي سترفضه وتتعهد لنفسها ألا تصبح يوماً ربة منزل ولا أن تصير أماً، تتعرض سيمون لصدمة كبيرة في شبابها بسبب موت صديقتها الحميمة (زازا) عام 1929، حيث عانت من حزن شديد، لتكتب روايتها (فتاتان لا تفترقان) عام 1954 التي صدرت ترجمتها مؤخراً عن دار تانيت للنشر، ترجمة مروان أسبر، تلك الرواية التي تحكي فيها عن علاقتها الحميمة جداً بصديقتها إليزابيث مابيل، لذلك سيتأخر صدورها سنوات طويلة بعد رحيل سيمون، حين قررت ابنتها بالتبني إخراج تلك الرواية من الأدراج ودفعتها للنشر.
حصلت في عام 1925 على شهادة البكالوريا لتبدأ بدراسة الفلسفة في جامعة السوربون، حيث قدمت رسالتها الفلسفية حول لايبتنز بين عامي 1928 - 1929، وتقدمت لامتحان الأستاذية في الفلسفة الذي يؤهل المتقدم لممارسة مهنة التدريس، وكان من بين المتقدمين لذلك الامتحان مجموعة من الأسماء التي سيكون لها شأن في الوسط الثقافي والفلسفي الفرنسي، من مثل: ميرلوبونتي وريمون آرون.. وغيرهما، ورئيس اللجنة الفاحصة لم يكن سوى الفيلسوف الكبير لالاند صاحب القاموس الفلسفي الأشهر في القرن العشرين، كانت سيمون أصغر المرشحين لذلك الامتحان، حيث لم تتجاوز في حينها الحادية والعشرين من العمر، اجتازت الامتحان بتفوق، لكنها حلت في المرتبة الثانية بعد جان بول سارتر، يلعب القدر والكيمياء المشتركة بينهما وطريقتهما المتماثلتين في التفكير ونزوعهما إلى التمرد والحرية؛ دوراً كبيراً في علاقتهما، ويصبحان الرفيقين الفكريين والعاطفيين اللذين لن يفترقا إلا بالموت، حيث أبرما عام 1929 ميثاقهما الشهير بأن يظلا رفيقان وعاشقان، ستربطها علاقة حب بالكاتب الأمريكي نيلسون ألغرين الذي كانت تخاطبه في رسائلها بـ(زوجي العزيز)، حيث وقعت في حبه دوناً عن كل علاقاتها الأخرى، إلا أنّ ذلك لم يؤثر على ارتباطها بسارتر الذي ستعود إليه ويعود إليها دائماً على الرغم من تعدد علاقاتهما.
كرست دو بوفوار حياتها لتدريس الفلسفة، وكانت تعامل طلابها معاملة الأصدقاء، وكانت ترى أنّ من واجب المعلم ألا يكتفي بتدريس المقرر بل أن يعلمهم كيف يعيشون حياتهم، وبقيت في مهنتها إلى أن تم فصلها من التدريس من قبل النازيين الذي احتلوا باريس عام 1940، الأمر الذي كان له كبير الأثر على أفكارها لتصبح أكثر انسجاماً مع مفاهيم الأخلاق والحرية والتحرر، وفي تلك الفترة ستصدر بوفوار العديد من الأعمال المهمة من مثل رواية (دماء الآخرين) التي صدرت ترجمتها عن دار المدى، وستساهم مع رفيقها جان بول سارتر في تأسيس مجلة (الأزمنة الحديثة) عام 1945 التي شكلت إضافة مهمة للحياة الثقافية الفرنسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي لخص مشروعها الفيلسوف الفرنسي ميرلوبونتي بقوله إنها (قراءة الحاضر بصورة وافية ووفية بقدر الإمكان)، وفيها ستنشر مقتطفات من كتابها الأهم (الجنس الآخر) الذي أصبح واحداً من أهم النصوص النسوية في القرن العشرين.
واصلت دو بوفوار الكتابة حتى آخر أيامها، فأصدرت العديد من الروايـــــــات والكتــــب والمقــالات السياسية والفلسفية، وفازت روايتها (المثقفون) التي نقلها إلى العربية جورج طرابيشي، وصدرت عن دار الآداب اللبنانية عام 1962، بجائزة غونكور عام 1954، وهي أشهر جائزة أدبية فرنسية، صورت فيها الصراع الفكري والسياسي بين المثقفين اليساريين في نهاية الحرب العالمية الثانية، لا سيما أعلام الفلسفة الوجودية الذين سيتعرف عليهم القارئ بسهولة في تلك الرواية، ويعرف منهم سارتر وألبير كامو، فضلاً عن العديد من الأعمال التي حققت لها شهرة واسعة مثل سيرتها الذاتية المعنونة (قوة الأشياء)، و(قوة العمر) و(موت عذب جداً)، وقد ترجمت أغلب أعمالها إلى اللغة العربية.
على الرغم من أنها لم تكن متحمسة في بداية حياتها للنسوية، ورفضت الانضمام إليها؛ إلا إنّ كتابها (الجنس الآخر) سيشكل علامة فارقة في التاريخ النسوي، ويتحول إلى خارطة طريق للأجيال القادمة لمواصلة الكفاح والنضال في سبيل التحرر، إلا أنها ستعلن نفسها نسوية في مقابلة معها عام 1972، وتنضم إلى نسويات ماركسيات في تأسيس مجلة (أسئلة نسوية)، وفي الستينات ستشارك في النضال السياسي ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وتكتب نصاً طويلاً عن المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد.
الفيلسوفة
عاشت سيمون دو بوفوار حياتها تتغنى بالوجودية، وإن لم يتم الاعتراف بها فيلسوفة إلا في أواخر حياتها، يبدو أنّ وجودها شبه الدائم مع سارتر قد ألقى بظلاله عليها وجعل الكثيرين يعتقدون أنها تعيش في ظل صاحب (الوجود والعدم)، وأنّ مشروعها الفلسفي إن وجد لا ينفصل عن مشروع سارتر الفلسفي الوجودي، وذهب البعض إلى القول إنّ أعمال دو بوفوار الفلسفية لم تكن إلا تطبيقاً لأفكار سارتر وفلسفته، لذلك لم تحظَ بالاهتمام الذي حظي به سارتر فلسفياً، وظل ينظر إليها أديبةً فقط، وهي لا تنكر أثر سارتر في شخصيتها وأفكارها، ففي كتابها (قوة الأشياء) تقول: (ليس صدفة أنّ الإنسان الذي اخترته هو سارتر، كنت تبعته بفرح لأنه كان يقودني في دروب كنت أريد أن أسلكها، لقد ساعدني سارتر، وساعدته كذلك، وأنا لم أعش من خلاله)، وفي كتابها (قوة العمر) تحكي عن الفوارق بينهما (سارتر يعيش ليكتب، كان يرى أنّ من واجبه أن يشهد على كل شيء، وأن يعيد صياغته تحت ضوء الحاجة، أما بالنسبة لي، فكان ما يحثني على الكتابة هو أن أعير وعيي لمباهج الحياة التي عليّ انتشالها من الزمن والعدم).
حاولت دو بوفوار طيلة حياتها وأثناء دراستها الجامعية أن تنهل من مختلف صنوف المعرفة، فقد قرأت أفلاطون وليبتنز وشوبنهاور وبرغسون ونيتشه، فضلاً عن قراءة الأدب، حيث قرأت بريتون وآرغون، واستولت عليها السريالية - كما تشير في يومياتها. وفي محاولة منها لإثبات نفسها فيلسوفة إلى جانب سارتر سوف تصدر روايتها الأولى (المدعوة) عام 1943 في نفس العام الذي صدر فيه كتاب جان بول سارتر الأشهر (الوجود والعدم)، وعنها يقول ميرلوبونتي: (إنها طريقة جديدة لممارسة الفلسفة الوجودية).
لن يمضي وقت طويل حتى تصدر دو بوفوار كتابها (نحو أخلاق وجودية) الذي اعتبر أول كتبها الفلسفية، وفيه تتناول العديد من المسائل الفكرية والفلسفية والسياسية، وتطرح الكثير من الأسئلة الوجودية، تقول: (لقد حددت الوجودية نفسها من البدء بأنها فلسفة الالتباس)، تلك الأسئلة ستنبثق عنها أسئلة أخرى أخلاقية وسياسية، عن ماهية الأفعال التي تعبر عن حقيقة وجودنا؟ وعن طريقة العيش بحرية؟ وكيف يمكن خلق ظروف تدعم إنسانية البشر؟ وعن علاقتنا بالآخر؟ تقول: (الإنسان بانسلاخه عن العالم، يجعل من نفسه حاضراً في العالم، ويجعل العالم حاضراً فيه)، وتتوصل إلى نتيجة مفادها أنّ لكل إنسان خياراته الخاصة والمستقلة، لكن لا يمكن دعم تلك الخيارات دون مساعدة الآخرين.
لم تتوقف سيمون دو بوفوار عن تطوير فلسفتها الوجودية، وبقيت ملتزمة بأنّ هوية الإنسان تتحدد بأفعاله: (إنّ ما يخصني هو فقط ما أتعرف فيه بوجودي، إنّ ما هو ملكي هو قبل كل شيء إنجاز مشروعي) من (مغامرة الإنسان). فبعد المحادثة بين بايروس وسينيز التي افتتحت بها الكتاب والتي طرحت تساؤلات حول طريقتنا في تبرير أفعالنا؛ تتساءل دو بوفوار: ما هو قياس الإنسان؟ أي أهداف يستطيع اقتراحها على نفسه، وأي آمال يستطيع أن يسمح لنفسه بها؟ ناقشت علاقة الإنسان بالآخر والعالم من حوله، واعتبرت أنّ تلك العلاقة (ليست مقررة من قبل، إننا نحن الذين نقرر)، وهي بذلك تؤكد على الفكرة التي قامت عليها الفلسفة الوجودية من أنّ (الوجود يسبق الماهية) والتي تعني أنّ الإنسان يوجد أولاً ثم يتعرف إلى نفسه.
أياً تكن التوصيفات التي أطلقت على سيمون دو بوفوار سواء أديبة أم فيلسوفة؛ فإنها لا تشكل تقييماً حقيقياً لقيمتها الفكرية، كما لم يقلل ارتباط اسمها بجان بول سارتر من أهميتها، ولم تفوت فرصة إلا اعترفت أنها من الناحية الفكرية أقلّ شأناً من سارتر. في (مذكرات فتاة رصينة) تقول: (بعد نقاش دام ثلاث ساعات كان عليّ أن أعترف بهزيمتي)، فلم تجد دو بوفوار حرجاً من الاعتراف بأهمية سارتر وتفوقه عليها.
تعرضت سيمون دو بوفوار للانتقادات والسخرية ونعتت بالمرأة المنحرفة، بسبب تمردها ورفضها للصورة النمطية للمرأة، وها هي تؤكد في كتابها (وانتهى كل شيء): (أردت أن أوجد في عيون الآخرين، وأنا أشاركهم حبي لحياتي وتعلقي بها، لقد نجحت في ذلك تقريباً، لديّ أعداء ألدّاء، ولديّ عدد كبير من الأصدقاء من بين قرائي، لا أطمع بأكثر من ذلك)، ورغم ذلك بقيت دو بوفوار أيقونة نسوية وإحدى أهم المفكرات، وما زال كتابها (الجنس الآخر) ملهماً لأعداد كبير من النساء حول العالم.
كانت قد مرت ست سنوات على وفاة سارتر حين لفظت سيمون دو بوفوار أنفاسها الأخيرة في الرابع عشر من نيسان أبريل 1986، لتدفن بجواره حسب وصيتها، وكانت تتمنى لو تحظى بجنازة شبيهة بجنازته، غير أنّ سارتر تفوق عليها حتى في موته حيث تجاوز عدد مشيعيه الأربعين ألفاً، وحين عبرت جنازتها حي مونبارناس وقف رواد مقهى (لا كوبول) ملتقى المفكرين والمثقفين لإلقاء تحية الوداع عليها.