مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

وسطية النقد التراثي في مقاربة النص الأدبي

إن للنقد العربي وللبلاغة العربية خصوصيتهما، وهي وسطيتهما في التعامل مع النص الأدبي، وذلك من خلال مراعاة أبعاده جميعاً، ومن خلال وضعه في جو إنشائه، والملابسات المختلفة التي كانت وراء ولادته على هذا النحو أو ذاك.
ونقرأ في كتب التراث النقدي والبلاغي أن النص الأدبي المتميز غني بالدلالات، ثر بالمعاني، بعيد الغور، متسع التأويل، ولكن ذلك كله -كما سنبين- لا يقوم على أوهام المتلقي، ولا على سلطانه الأعمى على النص، كما تذهب إلى ذلك بعض المناهج الغربية، ولكنه يقوم على ما يمنحه له هذا النص من إمكانيات للقراءة، وقدرة على التأويل.
ومن ثم فليس صحيحاً ما زعمه بعض النقاد العرب الحداثيين - إن عن حسن نية، بسبب عدم الاستقراء الدقيق للنصوص، وإن عن تجاهل متعمد - من أن فكرة (تعدد القراءات) أو فكرة تعدد الدلالات في النصوص، هي فكرة جديدة على النقد العربي، وهي من فتوحات النقد الحداثي وما بعد الحداثي.
يقول كمال أبو ديب -متحدثاً عن تعدد القراءات: إنها خصيصة خرجت على وحدانية البعد، ووحدانية المعنى في التراث الشعري، وأسست التعدد بدلاً من الوحدانية جذراً للفاعلية الشعرية، وينبوعاً من ينابيع الرؤية الحديثة للعالم.
وهذا كلام من أعجب العجب، إذ هل يعقل أن يكون ناقد بحجم (كمال أبي ديب) جاهلاً وجود عشرات وربما مئات النصوص في التراث النقدي العربي التي تتحدث عن تعدد دلالات النص الأدبي عامة، والنص الشعري خاصة؟!
ما أكثر ما وجه النقاد العرب -ومن وقت مبكر جداً- أقوال الشعراء أكثر من توجيه، وقرؤوها أكثر من قراءة، واختلفوا في تفسيرها، بسبب طبيعة صياغتها المكتنزة الغنية التي تحتمل أكثر من تأويل.
قال أبو عبيدة في توجيه قول امرئ القيس:
ألا إن لم تكن إبل فمعزى
كأن قرون جلتها العصي
فتملأ بيتنا أقطاً وسمناً
وحسبك من غنى شبع وري
(هذا يحتمل معنيين: أحدهما يقول: أعط كل ما كان لك وراء الشبع والري، والآخر القناعة باليسير، يقول: اكتف به، ولا تطلب ما سوى ذلك. والأول الوجه، لقوله:
فلو أنما أسعى لأدني معيشة
كفاني -ولم أطلب- قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي..)
وأبو عبيدة في هذه القراءة التي اعتمدها، وهي أن يكون الشاعر ذهب إلى أنه سيهب كل ما وراء شبعه وريه- ينفي وجود تناقض بين قول امرئ القيس الأول وقوله الثاني، كما ذهب إلى ذلك قدامة بن جعفر، الذي اعتمد التوجيه الثاني للبيتين، فحكم على الشاعر بمناقضة نفسه بين ما قاله أولاً وما قاله بعد ذلك، إذ عكس في الحالة الأولى قناعة ورضا بالقليل، وعكس في الثانية طموحاً باذخاً، وهو السعي لمجد مؤثل.
وجاء في (الوساطة) في نقد علي بن عبدالعزيز الجرجاني لبيت أبي الطيب المتنبي:
ما بقومي شرفت بل شرفوا بي
وبنفسي فخرت لا بجدودي:
(ختم القول بأنه لا شرف له بآبائه، وهذا هجو صريح، وقد رأيت من يعتذر له، فيزعم أنه أراد: ما شرفت فقط بآبائي، أي: لي مفاخر غير الأبوة، وفي مناقب سوى الحسب، وباب التأويل واسع، والمقاصد مغيبة، وإنما يستشهد بالظاهر، ويتبع موقع اللفظ..)
وهي قولة تضع قاعدة للتأويل، وهي الاعتماد على ما يمليه الظاهر من دلالة ألفاظ الكلام، وليس الاعتماد على حدس المؤول أو تخمينه.
وتعمق ابن رشيق في هذه المسألة أكثر، فأشار إلى ظاهرة تعدد القراءات، وإلى غنى النصوص الشعرية خاصة بالدلالة، مما يفتح الباب واسعاً أمام تأويلها، فيؤسس ثقافة التعدد بدلاً من ثقافة (الوحدانية) التي اتهم أبو ديب بها التراث النقدي والبلاغي عند العرب، وجعل ثقافة (التعدد) من ينابيع الرؤية الغربية الحديثة للعالم.
يورد ابن رشيق بيت امرئ القيس في وصف فرسه:
مكر، مفر، مقبل، مدبر معاً
كجلمود صخر حطه السيل من عل
تحت ما سماه (باب الاتساع) وعرفه بأنه أن (يقول الشاعر بيتاً يتسع فيه التأويل، فيأتي كل واحد بمعنى، وإنما يقع ذلك لاحتمال اللفظ، وقوته، واتساع المعنى. من ذلك: (مكر مفر..) فإنما أراد أنه يصلح للكر والفر، ويحسن مقبلاً ومدبراً، ثم قال (معاً) أي جميع ذلك فيه. وشبهه في سرعته، وشدة جريه، بجلمود صخر حطه السيل من أعلى الجبل، فإذا انحط من عال كان شديد السرعة، فكيف إذا أعانته قوة السيل من ورائه؟
وذهب قوم إلى أن معنى قوله: كجلمود صخر حطه السيل من عل..
إنما هو الصلابة، لأن الصخر عندهم كلما كان أظهر للشمس والريح كان أصلب.
وقال بعض من فسره من المحدثين: إنما أراد الإفراط، فزعم أنه يرى مقبلاً ومدبراً في حال واحدة عند الكر والفر، لشدة سرعته، واعترض على نفسه، واحتج بما يوجد عياناً، فمثله بالجلمود المنحدر من قمة الجبل، فإنك ترى ظهره في النصبة على الحال التي ترى فيها بطنه وهو مقبل إليك..
وأوضح ابن رشيق -واضعاً بذلك قاعدة في التأويل- أن معول من استنبط هذه التأويلات المحتملة إنما كان على ما توجبه ألفاظ البيت، وليس على مقصدية الشاعر، إذ (لعل هذا ما مر قط ببال امرئ القيس، ولا خطر في وهمه، ولا وقع في خلده ولا روعه..)
وزاد البغدادي في (خزانة الأدب) على ما أثبته ابن رشيق من توجيهات لبيت امرئ القيس، ثم علق على ذلك -معتمداً قاعدة ابن رشيق في التعويل على دلالات اللغة فقط، ومشيراً إلى دور المتلقي في استنباط هذه الدلالات- قال: (هذا ولم تخطر هذه المعاني بخاطر الشاعر في وقت العمل، وإنما الكلام إذا كان قوياً من مثل هذا الفحل احتمل لقوته وجوهاً من التأويل، بحسب ما تحتمل ألفاظه، وعلى مقدار قوى المتكلمين فيه..)
وتتجلى ملامح هذه القضية بعد ذلك كثيراً في أجيج الخصومة النقدية، التي شبت حول الشاعرين الكبيرين أبي تمام وأبي الطيب المتنبي، إذ اتسع مجال القول في معاني شعر هذين الشاعرين، بسبب ما اتسمت به من عمق وغموض، مما فتح باب التأويل فيها، وفهم دلالاتها، على مصراعيه، وألفت كتب تفسر (أبيات المعاني) عندهما، وهي الأبيات الغامضة التي اختلف في فهمها.
يقول التبريزي عن بعض أبيات أبي تمام: (ربما احتمل البيت معنيين، ويكون أحد المعنيين أقوى من الآخر، فلا يميز بينهما إلا من حسن فهمه، وصفا ذهنه، لأن نقد الشعر أصعب من نظمه..)
ومن ذلك كثير مما ورد في كتاب: (المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب) لابن معقل الأزدي، إذ نجد ردوداً على تأويلات الشراح، واعتماداً لتأويلات أخرى يرى المفسر أن النص يحتملها.
فمن ذلك قول أبي الطيب من قصيدة يمدح بها علي بن أحمد المري الخراساني:
(حسن في عيون أعدائه أق...
بح من ضيفه رأته السوام
قال ابن جني في تفسيره: الذي يسبق إلى النفس من هذا أنه حسن في عيون أعدائه، وأنه (أقبح من ضيفه رأته السوام). وليس الأمر كذلك بل بضده. وإنما معناه: حسن، أي: هو حسن، وتم الكلام. ثم كأنه قال: هو أقبح في عيون أعدائه من ضيفه في وقت رؤية السوام له، وهو المال الراعي، لأنه ينحره للأضياف، وكذلك يهلك الأعداء ويبيرهم.
وأقول: إن هذا الذي فسره وجه صالح، وليس له أن يرد التفسير الأول، وقد ذكره الشيخ أبو العلاء، وهو أن أعداءه يرونه حسن الصورة قبيح الفعل، فهم في هذا يرونه قبيحاً حسناً، وفي الوجه الآخر يرونه قبيحاً. فتفسير أبي العلاء أمدح لإثبات الحسن له عند كل أحد، وأصنع لإثبات الحسن له والقبح، وأخذه من وجهين مختلفين..)
ومن ذلك شرح ابن جني لقول المتنبي يمدح أبا العشائر:
وأكبروا فعله وأصغره
أكبر من فعله الذي فعله
قال ابن جني في شرحه: (تم الكلام على (أصغره) أي: استكبروه منه واستصغره هو.
ثم قال مبتدئاً:
... ... ...
أكبر من فعله الذي فعله
أي فاعل الفعل أكبر من الفعل، فكأنه قال: هو أكبر من فعله.
ويرد عليه ابن معقل قائلاً: أقول هذا وجه حسن، وثم وجه آخر قد ذكره غيره، وهو أن يكون (أكبر من فعله) فاعلاً، العامل فيه أصغره، كأنه قال: (وأصغره) رجل أو فارس أكبر من فعله..)
ولو مضى الباحث يستقصي ما ورد في نقدنا العربي القديم من نصوص واضحة الدلالة حول وجود هذه الظاهرة (ظاهرة تعدد القراءات)، واتساع الدلالات في النصوص الأدبية، ومنهج النقاد في تأويل النصوص، لملأ في ذلك الصفحات.
إن هذه ظاهرة متأصلة في التراث الأدبي والنقدي عند العرب، ولم تكن في انتظار فتوحات الحداثيين حتى تخرج إلى النور، وكم بنيت كثير من خلافات اللغويين والنقاد والفقهاء والأصوليين على سبب من اختلاف التأويل، والاتساع في تفسير النصوص، من منطلق الإيمان بأن النص العظيم الرائع غني بالدلالة، مكتنز بالمعاني، وهو محتاج إلى القارئ الخبير الذي يميط اللثام عن ذلك، من خلال معرفته بوجوه نظم الكلام وصياغته.
وقد قال علماؤنا عن القرآن الكريم -هذا الكتاب البلاغي المعجز-: (إنه حمال أوجه)، مشيرين بذلك إلى الثراء اللغوي الذي يحمله نظمه، فيجعله منفتحاً على أفق رحب من التفسير والتأويل على أيدي العالم البصير الذي يستطيع استنباط ذلك، والوقوع عليه في ضوء ما تحتمله لغة النص قبل كل شيء، وفي ضوء وضعه في إطار الملابسات التي قيل فيها.
التأويل وقصد المتكلم
ولكن النقد العربي -كما هو واضح- يحترم النص ودلالاته اللغوية، وذلك مقدم عنده على ما يسمى بـ(مقصدية المؤلف). التي هي بطبيعة الحال- غير حاضرة دائماً.
وقد مر معنا قبل قليل وابن رشيق وغيره يؤولون قول امرئ القيس:
مكر مفر.. أنه لا عبرة أن تكون تأويلاتهم خطرت على بال الشاعر أو لم تخطر، إذ لا أهمية لذلك، ولا اعتبار له، إذا كانت لغة النص تحتمل ما يذهب إليه الشارح من التفسير.
وها هو ذا الآمدي صاحب الموازنة بين الطائيين يوضح ذلك بشكل لا يقبل اللبس.
يرد على تهمة وجهها إليه أنصار أبي تمام، إذ رموه بأنه لم يفهم ما قصد شاعرهم من كلامه، ولم يدرك ما رمى إليه في قوله:
الود للقربى ولكن عرفه
للأبعد الأوطان دون الأقرب
فأبو تمام الذي نقده الآمدي بأنه قد نقص الممدوح برتبة من الفضل، وجعل وده لذوي قرابته، ومنهم عرفه، وجعله في الأبعدين دونهم لم يفهم -في زعم ناقديه- كلام أبي تمام، فأبو تمام أخرج أقاربه من المعروف، لأنهم في غنًى وسعة.
يرد الآمدي على هؤلاء الناقدين قائلاً: (وكيف يعلم أنهم أغنياء، وليس في ظاهر لفظ البيت دليل عليه، قال: نوى وأراد، قلت: ليس العمل على نية المتكلم، وإنما العمل على ما توجبه معاني ألفاظه، ولو حمل كلام كل قائل، وفعل كل فاعل، على نيته، لما نسب أحد إلى غلط ولا خطأ في قول ولا فعل، ولكان من سدد سهماً وهو يريد غرضاً فأصاب عين رجل فذهبت، غير مخطئ، لأنه لم يعتمد إلا الغرض، ولا نوى غير القرطاس).
وهي عبارة نقدية مهمة، تستنبط منها -على وجازتها- مجموعة من الأحكام التي تتعلق بتأويل الكلام أو تفسيره، منها:
1 - أن النص وحده هو المخول بإعطاء الدلالة، وفرز المعنى المراد، ومنه وحده تستنبط الأحكام، وتستخرج المفاهيم، وبذلك يحتفظ النص -بما تعطيه معاني ألفاظه- بهيبته ومكانته وسلطانه، ولا يعتدي عليه معتد.
2 -أن فكرة (أن المعنى في بطن القائل) -كما يقول بعضهم- غير دقيقة، ولا مكان لها في تفسير الكلام أو شرحه، لأن الناقد لا يعول على نوايا المتكلم، وهو غير قادر على ذلك أصلاً: لا شرعاً ولا عقلاً، فالنيات لا يعلمها إلا علام السرائر، والناقد ليس عرافاً ولا قارئ فنجان، وإنما هو متلق يقوم بنشاط عقلي منطقي تمليه لغة النص الذي أمامه، وطبيعة ألفاظه وعباراته، تمليه -كما يقول الآمدي- (معاني ألفاظ المتكلم).
وهذا عندئذ يلغي فكرة (مقصدية المتكلم)، ويحيل على (مقصدية النص) ويعطيه السلطان على نحو ما فعلت البنيوية بعد ذلك بقرون.
وها هو ذا عبدالقاهر الجرجاني يؤكد في نص بالغ الدلالة أهمية مرجعية النص، وأن احتمالية ألفاظه هي الأساس في كل ما يذهب إليه المؤول، أو يعدل إليه المفسر، وهو ينعي على قوم يفرطون في التأويل، والتكثر من التماس دلالات متعددة من النص من غير سند لفظي في النص يرشدهم إلى ذلك.
يقول عبد القاهر: إن الإفراط هو ما يتعاطاه قوم يحبون الإغراب في التأويل، ويحرصون على تكثير الموجود، وينسون أن احتمال اللفظ شرط في كل ما يعدل به عن الظاهر، فهم يستكرهون الألفاظ على ما لا تقله من المعاني.
3 -أن سلطان القارئ إذن أو سلطان المتلقي -خلافاً لما يقوله التفكيكيون وأصحاب نظرية التلقي- منضبط بالنص المقروء، محكوم بدلالة ألفاظه، ومعاني عباراته، وليس سلطاناً مطلقاً، يجعل هذا القارئ يؤول النص كما يشاء، أو يقرؤه على هواه، حتى ليقوّله ما لم يقل، أو ينطقه بما لم ينطق.
4 -وعبارة الآمدي النقدية البليغة لا تنكر ما يمكن أن يحمله النص من دلالات متعددة، أو توجيهات مختلفة، ولكنها - مرة أخرى - تجعل ذلك نابعاً من النص ذاته بما فيه من إمكانات، وبما يفرزه من المعاني والأفكار، وليس بما يحمل عليه حملاً، أو يكره عليه إكراهاً، استجابةً لسلطان زاعم أن القارئ وحده هو الذي يمتلكه.
إن الصيد في جوف النص، والقارئ يستخرجه، ولن يستطيع أن يستخرجه - دائماً - أي قارئ، بل القارئ الدرب المتمرس، وبذلك نحترم طرفين من أطراف معادلة العملية الأدبية، هما النص والقارئ، ولا نستهين بأحدهما أو نسقطه، انحيازاً للطرف الآخر.
5 - وأخيراً: فإن الاحتكام إلى النص لا يعني تجريده -كما يفعل البنيويون والتفكيكيون وغيرهم- من كل خارج: كالمجتمع، أو التاريخ، أو السيرة، أو ما شاكل ذلك، لأن هذا الخارج قد يكون في أحيان غير قليلة جزءاً من الداخل، وقد تكون (معاني ألفاظه) التي يستنبطها المفسر محكومةً بهذا الخارج، بل آخذةً أبعادها الحقيقية من خلاله، فقد يكون -وما أكثر الأمثلة على ذلك- هذا الخارج هو الذي شكلها على هذا النحو أو ذاك، فأصبح جزءاً من دلالتها.
وها هو ذا الآمدي نفسه الذي يحيل على سلطان النص، وما توجبه معاني ألفاظه، يحيل في شعر أبي تمام نفسه إلى هذا الخارج، ويوضح أن التقاط معاني الألفاظ قد لا يتضح إلا بمعرفة هذا الخارج.
يورد الآمدي بيت أبي تمام:
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت
جلودهم قبل نضج التين والعنب
وهو بيت عابه بعض النقاد، ومنهم أبو العباس، واستنكروا إيراد هاتين الفاكهتين، فيقول الآمدي مدافعاً عن البيت، مبيناً ارتباط اللفظ المعين بخارج معين: (لهذا البيت خبر لو انتهى إلى أبي العباس لما عابه)
وقد يستحضر الناقد (مقصدية المؤلف) إذا كان هنالك سياق يدل عليها، كأن نستحضر عقيدة المؤلف، أو توجهه الفكري، أو ما شابه ذلك.
أورد ابن رشيق قول أبي نواس في الخمر:
(ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر)
وذكر أن هناك من وجه كلام أبي نواس على أنه: (إنما قال: وقل لي هي الخمر، ليلتذ السمع بذكرها، كما التذت العين برؤيتها، والأنف بشمها، واليد بلمسها، والفم بذوقها..)
ويرفض ابن رشيق هذا التفسير استناداً إلى سياق يتعلق بالشاعر، وهو ما عرف به أبو نواس من مجون واستهتار بالقيم الدينية، فيقول عن التفسير السابق: (وأبو نواس ما أظنه ذهب هذا المذهب، ولا سلك هذا الشعب، ولا أراه أراد إلا الخلاعة والعبث الذي بنى عليه القصيدة)، ثم يستأنس بدلالة النص نفسه، فيقول: (ودليل ذلك أنه قال في تمام البيت:
(ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر)
فذهب إلى المجاهرة، وقلة المبالاة بالناس، والمداراة لهم في شرب الخمر بعينها التي لا اختلاف بين المسلمين فيها..)
لقد استأنس ابن رشيق وهو يقبل تفسيراً ويرفض آخر بعناصر داخلية وخارجية معاً، كان أمامه النص، والمؤلف، وملابسات يعرفها عن سيرة الشاعر وسلوكه الاجتماعي. لم ينطلق من سلطان خاص به ليؤول النص كما يشاء.
ومن الواضح أن هذا النقد التراثي - وهو يتحدث عن هذه الظاهرة، فيشير إلى وجودها ويؤصل لها - لا يغفل عن أن يضبطها، فيضع لها قواعد دقيقة، حتى لا تكون فوضى أو مشاعاً لكل قارئ.
إن للتأويل ضوابط، من أهمها ضابطان:
1 -احتمالية لغة النص لما يراد توجيه المعنى إليه.
2 - العالم الحصيف المميز، لملابسات النص المختلفة، وليس الذي يمتلك سلطاناً مطلقاً لا يضبطه ضابط من نص، أو مؤلف، أو ملابسات معينة تشكل نسيج هذا، وتكون جزءاً من تكوينه.
إن سلطان المؤول، أو القارئ -إذن- ليس سلطاناً مطلقاً كما أشاع ذلك التفكيكيون، أصحاب نقد ما بعد الحداثة اليوم، حتى تحول تأويل النصوص - حتى ما كان منها سماوياً مقدساً - إلى لعبة يمارسها كل قارئ بحجة ما سموه (سلطان القارئ) أو (نظرية التلقي)، وما شاكل ذلك من المصطلحات البراقة.
إن النصوص الأدبية العظيمة متسعة الدلالة حقاً، مشبعة بالمعاني، ولكن استخراج هذه الدلالات الكثيرة مشروط بجملة من الشروط، من أهمها ما أشرنا إليه.
يقول الإمام الغزالي -رحمه الله- في كتابه (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) ذاكراً أبرز قواعد التأويل: معرفة ما يقبل التأويل وما لا يقبل التأويل ليس بالهين، بل لا يستقل به إلا الماهر الحاذق في علم اللغة، العارف بأصول اللغة، ثم بعادة العرب في الاستعمال: في استعاراتها، وتجوزاتها، ومنهاجها في ضرب الأمثال والتأويل

ذو صلة