يُحكى عن قصة صعود الشاعر الغنائي المصري (سيد مرسي)، -والذي أصبح شاعراً غنائياً محترفاً بالمصادفة- أنه كان يهيم حباً بخادمة الشاعر مأمون الشناوي، ويبعث لها بخطابات الغرام في جيوب بدل الشناوي، التي كان يتولى مهمة تنظيفها وكيها، حيث يعمل مكوجي بسيط في الحي الذي يقطنه الشاعر، وكان أن وقعت رسالة من هذه الرسائل في يد الشناوي ليستدعيه بعد قراءته لقصيدة الغرام هذه، التي فتحت الباب أمامه لاحقاً ليصير بعد ذلك ملء السمع في عالم الأغنية المصرية، بعدما كان همه الأكبر أن تبادله الخادمة حباً بحب، وفقط، ودون أي أوهام عن التحقق الإبداعي الشعري أو الغنائي. ربما شاعراً غنائياً آخر كان مصراً على التحقق، تقطعت شواسع نعلاه، وهو يدور بأغانيه على أبواب الفنانين الكبار والصغار دون جدوى، ودون أن يحصل على مثل هذه الصدفة القدرية السعيدة، ما يعكس سؤالاً مهماً عن عملية الإبداع والتلقي:
هل الإبداع بشكل عفوي دون التقيد الصارم بآليات وأبجديات العمل الكتابي يصبح -أحياناً- شرطاً في عالم التحقق الأدبي؟
التاريخ الإبداعي مليء بمثل هذه النماذج، التي تحققت دون وعي أو حرص منها فملأت الدنيا وشغلت الناس، ونامت عيونهم عن شوارد ما كتبوا، وسهر الخلق جراها واختصموا، كما هتف بها المتنبي سابقاً في وجه نقاده.
والحقيقة أنه كثيراً ما يحدث في فضاء الأدب شرقاً وغرباً أشياء من هذا القبيل، فتواترت الأنباء مثلاً عن أن (أجاثا كريستي) كانت تكتب في وأقات فراغها، بلا تخطيط وبلا تبييض لمسودة، حتى أنها أجابت ذات مرة عن سؤال من أين تأتي بأفكار رواياتها؟ فقالت: (تأتيني وأنا أغسل الصحون بالمطبخ).
الأديب الياباني الأشهر (هاروكي موراكامي) الحاصل على عدة جوائز أدبية بدأ الكتابة كبيراً نسبياً وبالمصادفة البحتة، حيث أتته فكرة روايته الأولى (أسمع الريح تغني) وهو يمارس هواية الركض، دون سابق التزام بالكتابة، ولم يكن يتخيل أن تقبلها دار نشر، لكنها وللمفاجأة نشرت، وحصلت على جائزة أدبية، ليتفرغ بعدها للعمل الكتابي وحده، كي ينجز روائع مثل (كافكا على الشاطئ) و(يوميات طائر الزنبرك) وغيرها. النقطة الفارقة عند (هاروكي) هو أنه يكتب بشكل يومي، وبصرامة، وكأنه في دوام عمل، عكساً للكاتب العربي الذي يتعامل مع الكتابة بكسل وبنظرية الإلهام والوحي.
أما الأديب والشاعر الإيطالي (أنطونيو تابوكي) فقد اعترف قبل رحيله بأنه كان كاتباً ومترجماً وشاعراً بالصدفة البحتة، وأن كتاباته كلها كتبها من واقع الضجر والملل الذي كان يعاني منه، وأنه لا يتخيل أبداً الخلود لأعماله الأدبية ولا ترجماته، لأن الكتابة حسب (تابكو) فعل شخصي من أجل مقاومة الاكتئاب وحسب.
النموذج الأشهر عربياً في هذا السياق هو الكاتب المغربي (محمد شكري)، الذي دون سيرته الذاتية عبر ثلاث روايات بصراحة قل نظيرها في سردنا العربي، (الخبز الحافي) و(الشطار) و(زمن الأخطاء). من خلالها نرى النموذج الأشد بؤساً ومعاناة ومأساوية في حياة الإنسان عموماً، وليس محمد شكري فقط، والذي لم يخطط أو يدر حتى في أحلامه أن يصبح كاتباً معروفاً، لتلعب مجموعة من الصدف المتوالية لصالحه، وبتحالف قدري يتخلص من واقعه المأساوي الشديد المعاناة، ليتعلم القراءة والكتابة، ويرافق صحبة من الكُتَاب أهلته لصدارة المشهد الروائي المغربي.
النماذج السالفة، تشير إلى أن الفعل الإبداعي والكتابي والفني عموماً لا آلية ثابتة واحدة تحكمه، وأن النجاح -وللأسف- لا قاعدة تؤطره، وأنه في أحيان كثيرة تساهم الصدف البحتة والحظ بصنعه كما حدث مع (سيد مرسي)، وكما سيحدث مع نماذج كثيرة لاحقة.