مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

فواصل عرفانية

تتوهج الجملة الغائبة مثل لحظة مغروسة في الموسيقى، تزهر بين الكلمات، وكذا، الأعماق الإنسانية المشرقة بشطحات النقاء، تتفتح أشعة لماحة، تعبر بين بقاء وفناء.
من قال: الوقت يمهل الوقت؟
لنسأل المعنى الأكثر ضوءاً: كيف لنا أن نحلّق بين فواصلك؟
سيشير إلى أنشودة في المركب، ويمضي إلى تلك الأمواج ليتسلق لونها ويجلس على قمة الجبل، منتظراً أن يقفز صبرنا إلى البحر، أو النايات، أو التربة، ليصير موجات ذهبية تعانق الرمال الفضية، أو علامات موسيقية تعزف أشجاننا، أو نبضات خضراء تنمو أشجاراً وغابات وقمماً لازوردية، أو احتمالات تتأرجح بين أفكارنا وأحلامنا، أو ليتركنا ويغادر مثل مسافر أضاع الجهات لعلنا ننتقل من مراكب ذاكرتنا إلى مراكب النسيان.
يتوهج المشهد الحاضر، فنلمح أطيافنا مجموعة أطفال تلعب على الشاطئ، بعضنا نسي بعضنا، فاتسعت المسافات، وتلاشت تفاصيل الأمكنة، وحتى اللحظة، لم يعد أي منا إلى نفسه، إذن، أين كنا؟ وكيف نجدنا؟ ومتى نعيد بعضنا إلى كلّنا؟
تتراكم الأسئلة كما يتراكم القش في النار، فينظر كلٌّ منّا إلى وهجها من زاويته، ويحاول أن يفك كلماتها بمفهومه، وريثما نصل، نكتشف أن الحياة حولتنا إلى كلمات من رماد.
سيتفاعل أحد القراء بفاصلة مجيباً: إنها الحياة، وما في يومياتها من تداعيات، تغلب على مصاعبها أجدادنا، ونحاول أن نتجاوز ما لا يستحق، ولعلها حكمة لأحفادنا.
ستقول إحدى القارئات: لنتخيل الزمن حديداً، نلينه بآلامنا، ونصنع من لحظاته ما يسعدنا من قيم وعائلة ومجتمع، لعلنا نشع بابتسامات صافية تألفها القلوب الجميلة المتفائلة بإعادة صياغة مفردات الحياة، وهذه فاصلتي.
سيفكر أحد الكتّاب بفاصلة أخرى، ويجيبني: لا يهمّنا الزائل، فالأيام رحلة قصيرة ستغرب ذات لحظة، ولن نجد من ظلالها سوى أعمالنا البيضاء أو السوداء.
ثمة صوت آخر، قادم من غيمة ما، يعرّش كروماً بين الجبال والينابيع، ويسمعه الجميع كل عام مرة واحدة: سعادتك داخلك، فاغتنم وعيك المضيء، ولا تدع للظلام والظلم أن يتسللا إلى ضميرك.
الشمس تسمع معنا فواصلنا، أصواتنا الداخلية، وحواراتنا الخارجية، فتسبح بين أمواج من موسيقى، وأمواج من كلام، وتصعد إلى المراكب لتستظل بالأنشودة، متأملة الطبيعة من مسافة أقرب، فترى العصافير تزقزق من شدة الحرارة، وتبتعد إلى الغابات، بينما الثلوج التي كانت منذ قليل على الجبال، صارت ماء مضافاً إلى البحر، مما جعل الموج يرتفع، ويضرب المراكب، فتعود الشمس إلى مدارها، تهدأ الفوضى الذهبية، وتبدو الحالة الفضية أقرب إلى الغروب مع ستائر القمر.
لم يكن الورد وحده يحدق في صبرنا قارئاً صمتنا، لكنه، فجأة، يلتفت إلينا، وينشر عطوره مبعداً الشوائب والرواسب عن دواخلنا، لنتفتّح مثله من جديد، وننشر عطور أرواحنا، عارفين أن هذا الفضاء مثل الحياة يتّسع للجميع، وبحاجة للجميع.
هل أخبرتكم أنه وشى لي بين طمأنينة وقلق، أم لم أخبركم بعد؟
ماذا تتوقعون أنه قائل؟
وماذا تتوقعون أني كاتبة؟
يضحك السؤالان معنا، أنا وأنتم، وتضحك الإجابة، لأن الانزياح عن أفق التوقعات حالة متجددة، تحبّ الخروج عن المعتاد، وإلاّ لماذا نفكر ونتخيل ونقرأ ونكتب؟
لكن، الأجمل أن نحيا الحياة بجماليات روحية يألفها الضوء ولا يعرفها الظلام، فتنزح عن العتمات، وتنشأ هالاتها المساعدة على التحول من الشيئية إلى الإنسانية، لأن الإنسان المدفون في كل إنسان قابل للحياة بسعادة بعيداً عن الشبكة المادية التي أصبحت تحكم الناس وتتحكم بهم، وتُنسيهم كيف يتحكّمون بالإيجابي الكامن فيهم، وكيف يتحكمون بالعالم الافتراضي، كي لا يسلبهم حياتهم المفيدة التي ستصعد ذات لحظة إلى ذاك المركب.
كن اللحظة التي تشاء، لكن، توقع أنك ستكون للحظة في المركب، ولربما، للحظة، ستكون الموج.
كن الموجة التي تشاء، وتوقع أن البحر يمزج التشابُهَ بين الموج المتشابه، وهو محصّن بالبرزخ.
كن اللحظة الحاضرة من اللحظة الغائبة، لعلك تستعيد بعضك، أو كلك، من كل هذا الضجيج العاصف خارج ذاتك وروحك، فتموج بالطمأنينة وتتوهج مع أعماقك في هذا الفضاء.

ذو صلة