مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

العقل العربي في الألفية الثالثة

شهدت سنة 2010 رحيل عدد من رموز الفكر العقلاني في الساحة الثقافية العربية، وفي مقدمة هؤلاء محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وأحمد البغدادي، ونصر حامد أبو زيد، وآخرون غيرهم.. والجامع بين هؤلاء، على اختلاف مناهج مقاربتهم للواقع العربي، هو وعيهم التاريخي الأكيد بضرورة تأسيس عصر ثقافي جديد، قوامه الفهم الموضوعي للذات ماضياً وحاضراً، والتأسيس لمستقبل حضاري، للعرب فيه مكانة، مستقبل أساسه تفعيل مساهمة الإنسان العربي في صياغة المشهد الثقافي العالمي في زمن دقت فيه المسافة بين الأمم، وأضحى فيه الإبداع الفني والعمل الثقافي سبيلاً للتعبير عن الذات، وللمحافظة على الخصوصية الحضارية، والانتماء إلى هذا العالم/ القرية على كيف ما.
لذلك جد المصلحون الجدد في إعادة بناء العقل العربي، وكان ذلك بمساءلة التراث، ونقد عصر النهضة، والتشريع لفهم الذات على نحو يروم البناء لا الهدم، ويسعى إلى استحضار لحظات التحرر في تاريخ الفكر العربي، واستثمارها في تجديد وعينا بالأنا والآخر، وفي تغيير عدد من المسلمات والأحكام الجاهزة التي توارثها الناس على نحو آلي. فقد كان الخطاب العقلاني العربي المعاصر، في جانب منه، عوداً على بدء، ومحاولة لقراءة المنجز التراثي، وإعادة فهم النص التأسيسي قرآناً وسنة، بطريقة تفتح النص على محيطه الثقافي وفضائه العمراني بحثاً عن الحدود الفاصلة والخيوط الواصلة بين الإسلام النص والإسلام التاريخ، وبين منطوق النصوص الأولى وتأويلات المؤسسة الفقهية والتفسيرية.
من هنا، توجه الجابري للنظر في أنظمة المعرفة في السياق الإبيستيمي العربي، فماز، على نحو يحتمل الجدل، بين عقل بياني وعقل برهاني وعقل سياسي وعقل أخلاقي. وتراقى به الأمر إلى النظر في كيفية تشكل الدولة في تاريخ المسلمين. كما بحث في مسارات تعاملهم مع الخطاب القرآني، وهو مشغل سبقه إليه نصر حامد أبو زيد الذي أعاد ترتيب العلاقة بين المسلم وبين النص المقدس، فقد شرع لحوار مباشر بين المسلم والنص القرآني، وحاول تحييد المؤسسة التفسيرية، وبيان نسبية مقولاتها باعتبارها مؤسسة لاحقة على النص، وتدعي الوصاية عليه، فجاء خطاب الرجل ليقدم تمثلاً حادثاً لمفهوم النص، وليتعامل معه باعتباره خطاباً يحاور أسئلة المسلمين الحادثة، وينتظم ضمن سياقات حضارية مخصوصة، معتبراً النص منتجاً ثقافياً بامتياز، وهو رأي، على جدته، يبقى مسألة خلافية.
ولم يخرج أركون عن هذا النسق المنهجي في مقاربة تاريخ الفكر الإسلامي، فهو رائد أركيولوجيا المعرفة في المجال العربي، فقد أورثنا مدونة فكرية هي بمثابة حفريات في المتن الثقافي العربي والإسلامي. وقد انصرف الرجل إلى اعتماد مبدأ تضافر المناهج في محاورة الظواهر التي تولى دراستها، فجمع بين علم الإناسة، وأدوات علم الاجتماع، واللسانيات التطبيقية في تفكيك المنجز المعرفي العربي وفهم كيفيات اشتغاله.
وعمل أحمد البغدادي في مصنفاته على تحرير العقل العربي من جموده، وعلى مساءلة عدد من المسلمات، ومراجعة عدد من الأحكام القبلية التي توجه تفكير قطاع مهم من الناس في تصورهم لحقوق المرأة، وحكم المخالف، وحرية التفكير، فأسهم على نحو مهم في تجديد تمثل الناس للأسماء والأشياء وللمفاهيم والمصطلحات في السياق الإسلامي، وفي مقدمة تلك المصطلحات مفهوم الردة.
والحقيقة أن جهود هؤلاء، على أهميتها، تبقى مدار نظر ومحل نقد، فالجابري وأركون وأبو زيد والبغدادي من المؤسسين لعصر تدوين جديد في تاريخ لغة الضاد. لكن ما وضعوه من مقاربات تبقى محلاً للنقض والإبرام من جهة خياراتها المنهجية، ومدى قدرتها على تمثل الواقع العربي وتفكيكه وإعادة توجيهه نحو الفعل في الآن والهنا. كما أن هذه المقاربات قد غاب عنها النظر في جوانب حيوية من الراهن العربي من قبيل جدل المعرفي والمعيشي في الوعي الجمعي، وجدل المركزي والهامشي في الاجتماع العربي، فضلاً عن مسائل أخرى يضيق بتفصيلها المقام. يضاف إلى ذلك أن هذه الأنساق الفكرية لم تلق سبيلها إلى المنابر الإعلامية والمؤسسات التربوية، وظل خطابها حبيس الكتب والدوريات الأكاديمية، ورهين حدود النخبة المثقفة. لذلك ظل أثر الوعي العقلاني العربي في الناس محدوداً، ومسار التحول نحو الفكر النقدي مساراً مبتوراً، فما زال عدد مهم من العرب أسرى هاجس التكفير وسلطان العرف والعادة، وما زال آخرون في حيرة بين التجديد والتقليد، وسواهم ما زالوا تبعاً للقبيلة أو للطائفة، وغيرهم ما فتئ مشدوداً للسلف، غير آبه بالخلف، وعداهم ما انفك مسحوراً بخلب الأسطورة والخرافة، في حين انصرف آخرون إلى التشبه بالغرب في السلوك واللباس واللسان عملاً بتقليد المغلوب للغالب على حد قول ابن خلدون، فنالوا حق التشبه وما بلغوا سنام التقدم والحداثة.
من هنا، يجوز لنا أن نتساءل عن مصير العقل العربي في منعطف الألفية الثالثة. فهل يكسب العرب معركة تجديد العقل، والفعل في مجتمع ما بعد الحداثة؟ هل سيكون في مقدور العرب المساهمة في منجزات العقل الرقمي، وإبداعات العصر الافتراضي الجديد؟
ذو صلة