مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

إعارة الكتب في التراث العربي

كانت معظم المكتبات العربية بأنواعها الخاصة والعامة تسمح بالإعارة الخارجية للقراءة أو النسخ أو المقابلة أو التصحيح، وكانت هذه الإعارة تتم برهن أو من دون رهن، وذلك تبعاً لندرة الكتاب ووفرة نسخه في المكتبة, فضلاً عن سمعة المستعير الاجتماعية.
وكان الغرض من إعارة الكتب هو إتاحة فرصة القراءة ومطالعة الكتب لقطاع من طلبة العلم لاسيما الفقراء منهم ممن لا يجدون سعة في أموالهم ينفقون بها على اقتناء الكتب أو استنساخها وهي نفس الغاية الحميدة التي تقوم بها المكتبات العامة في يومنا الحاضر، وقد أشار ابن العطار إلى استعارة الكتب بقصد الدراسة، وذلك في توجيهاته حول كيفية صياغة وثيقة إعارة الكتب، فقال «وتقول في الكتب: ليستعيرها طلبة العلم للنسخ والمقابلة والدراسة».
ويستفاد من النص السابق أن استعارة الكتب لم تكن من أجل الدراسة فحسب وإنما كانت أيضا لأغراض علمية أخرى كالمقابلة والنسخ، فقد اقتضت ظروف العصر المتمثلة في ضعف الوسائل المتاحة لنشر الكتب على نطاق واسع أن يتهافت طلبة العلم على الكتب النفيسة والنادرة، رغبة في استنساخها، ومن الطريف أن أبا عبد الله بن أبي الفتح الصواف عبر عن هذا الاتجاه في بيتين من الشعر قال فيهما:
يا مستعير كتـــابي إنه علق
         بمهجتي وكذاك الكتب بالمهج
فأنت في سعة إن كنت تنسخه
         وأنت من حبسه في ضيق الحرج
وكان هناك أصول ومدة محددة للإعارة قال عنها ابن جماعة في كتابه (تذكرة السامع) ما يلي: «ينبغي لطالب العلم أن يعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها في العلوم النافعة ما أمكنه شراء أو إجارة، أو إعارة، لأنها آلة التحصيل، وإذا استعار كتاباً فلا يبطئ به في غير حاجة، وأن يشكر للمعير ذلك ويجزيه خيراً، وإذا طلبه المالك فيحرم عليه حبسه ويصير غاصباً له، وقد جاء في ذم الإبطاء برد الكتب المستعارة عن السلف أشياء كثيرة نظماً ونثراً»، كما قال في مكان آخر: «ولا يجوز للمستعير أن يصلح كتاب غيره، دون إذن صاحبه، إلا في القرآن، فإذا كان مغلوطاً أو ملحوناً وجب إصلاحه، فإن لم يكن خطه مناسباً أمر من يكتب ذلك بخط حسن، ولا يكتب شيئاً في بياض فواتحه أو خواتمه إلا إذا علم رضا صاحبه، ولا يعيره ولا يودعه لغير ضرورة، ولا ينسخ منه بغير إذن صاحبه، فإذا كان الكتاب وقفاً على من ينتفع به غير معين فلا بأس بالنسخ منه مع الاحتياط، وإذا نسخ من الكتاب أو طالعه فلا يضعه على الأرض مفروشاً، منشوراً، بل يجعله بين كتابين أو شيئين أو كرسي الكتب المعروف كيلا يسرع تقطيع حبله، ولا يطوي حاشية الورقة. وزاويتها كما يفعل كثير من الجهلة، ولا يعلم بعود أو شيء جاف، بل بورقة أو نحوها، وإذا استعار كتاباً فينبغي أن يتفقده عند إرادة أخذه ورده من ورقة محتاج إليها ونحوها».
 يروى عن الجاحظ قوله في هذا المعنى:
أيها المستعير مني كتابي
         ارض لي فيه ما لنفسك ترضى
لا تر رد ما أعرتك نفلاً
         وترى رد ما استعرتك فرضا
أما أبو العتاهية الشاعر المعروف فقد جاءه رجل ليستعير كتباً منه فرده أبو العتاهية قائلاً: «إني أكره ذلك، فقال الرجل: أما علمت أن المكارم موصولة بالمكاره؟ فأعاره الكتب».
وحدث موقف مشابه للإمام الشافعي، فقد أراد أن يستعير كتباً من الفقيه محمد بن الحسن لكن الأخير اعتذر، ومنعه الكتب فما كان من الإمام الشافعي إلا أن كتب إليه بحسه الشعري الجميل قائلاً:
ياذا الذي لم تر عين من رآه مثله
العلم يأبى أهله أن يمنعوه أهله
والواقع أن التلطف في طلب استعارة الكتب، وصياغة أبيات رقيقة من الشعر لتعزيز الطلب كانا أمراً شائعاً في الأوساط العلمية، فقد كتب منذر بن سعيد البلوطي إلى أبي علي القالي يستعير منه كتابه الغريب في مفردات اللغة فصاغ طلب الاستعارة منظوماً، فقال:
بحق ريم مهفهف
وصدغه المتعطف
ابعث إلي بجزء
من الغريب المصنف
فأعاره الكتاب وأجابه قائلاً:
وحق در تألف
بفيك أي تألف
لأبعثن بما قد
حوى الغريب المصنف
ولو بعثت بنفسي
إليك ما كنت أسرف
وفي الحث على الإعارة يروى عن وكيع ومن شأنه أن يدعم فكرة الإعارة وتشجيعها، قوله: «أول بركة الحديث إعارة الكتب»، ويروى عن سفيان قوله في هذا السياق: «تعجلوا بركة العلم، ليفد بعضكم بعضاً، فإنكم لعلكم لا تبلغون ما تؤملون»، كما يروى عن يونس بن يزيد أن الزهري قال له يوماً: «إياك وغلول الكتب، فقال: وما غلول الكتب؟ قال: حبسها عن أهلها»، كما يروى عن ابن الجوزي قوله في هذا السياق نفسه: «ينبغي لمن ملك كتاباً ألا يبخل بإعارته لمن هو أهله، وكذلك ينبغي إفادة الطالبين بالدلالة على الأشياخ وتفهيم المشكل، فإن الطلبة قليل وقد عمهم الفقر، فإذا بخل عليهم بالكتاب والإفادة كان سبباً لمنع العلم»، وعن ابن المبارك قوله كذلك: «من بخل بالعلم ابتلي بثلاث: إما أن يموت فيذهب علمه، أو ينساه، أو يتبع السلطان»، ومما يروى كذلك في الإعارة والحث عليها قول أبي حفص عمرو بن عثمان الشعيبي:
لا تمنعن الأهل كتبك واغتنم
في كل وقت أن تعير كتابا
فمعيرها كمعير ماعون فمن
يمنعه لاقى الويل والأنصابا
وقول خميس بن علي الجوزي:
كتبي لأهل العلم مبذولة
أيديهم مثل يدي فيها
متى أرادوها بلا منة
عاريةً فليستعيروها
ومن آداب الإعارة والتي قيل فيها الكثير، ورويت القصص التي تعبر عما كانت تحظى به من اهتمام كما تعكس مدى ما كان يدور بين محبي الكتب من مسامرات وروايات، ولعل وجوب رد الكتب والمحافظة عليها وإحسان ضيافتها بل إحسان استخدامها والشكر عند ردها، كانت من أبرز النصائح التي حرص الكثيرون على التنبيه إليها.
ذو صلة